في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم ، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة ؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته ؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً ، وفيها أيضاً : دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً ، وفيها أيضاً : دليلٌ على مع رفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام بتأويلِ الرُّؤيا ؛ فإنه علم من تأويلها : أنَّه سيظهر عليْهم .
قوله { لاَ تَقْصُصْ } قرأ حفص : " يا بُنيَّ " بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، وقرأ العامة : بفك الصادين ، و هي لغةُ الحجاز ، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة ، والإدغام لغة تميم ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة ، عند قوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا .
وقال الزمخشريٌّ : " الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية ، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة ، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث ؛ كما قيل : القربة والقربى " .
وقرأ العامَّة : " الرُّؤيا " مهموزة من غير إمالة ، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : 100 ] : و " رُؤيَاي " الاثنتان في هذه السورة ، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور ، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ .
وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ : " رُيَّايَ وريَّاكَ " بالادغام ، وضم الرَّاء ، وكسرها ، وهي ضعيفة ؛ لأن الواو في تقدير الهمزة ؛ فلم يقو إدغامها ؛ كما لم يقو إدغام " اتَّزَر " من الإزراِ ، و " اتَّجرَ " من " الأجْر " .
يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به ، وهذا هو الغالبُ ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله : " رِئْياً " في قوله : { أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] عند حمزة ، و { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] وأما كسر " ريَّاكَ " فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة ، وأما الضمُّ فهو الأصل ، والياء قد استهلكت بالإدغام .
قوله " فيَكِيدُوا " : منصُوب في جواب النَّهي ، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله : " إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ " .
أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ ، و على هذا ففي اللام في قوله : " لَكَ " خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون " يَكيدُ " ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم ؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه ، وقال : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [ هود : 55 ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد .
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : " فإن قلت : هلا قيل : فَيَكيدُوكَ " كما قيل : الفعل المضمَّن ، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف ، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك ؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر " .
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية ، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة ، وبنفسه أخرى ؛ ك " نَصَحَ " و " شَكَرَ " كذا قالهُ أبو حيَّان ، وفيه نظر ؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس ، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة ، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ .
والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به ؛ كزيادتها في قوله : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، قاله أبو البقاء ؛ وهو وضعيفٌ ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول ، أو كون العامل فرعاً .
الرابع : أن تكون اللام للعلَّة ، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك ؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً ، أو اختصاراً .
الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف ؛ لأنَّها حالٌ من " كَيْداً " إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت .
الوجه الثاني من وجهي " كَيْداً " : أن يكون مفعولاً به ، أي : فيصنعوا لك كيداً ، أي : أمراً يكيدُونك به ، وهو مصدر في موضع الاسم ، ومنه : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] ، أي : ما تكيدُون به ؛ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذا ففِي اللاَّم في : " لَكَ " وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل ، ثم صارت حالاً ، أو هي للعلَّة ، وأما الثلاثة الباقية ، فلا تتأتَّى بعد ، فامتناعها واضحٌ .
ثمّ قال : { إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : يزيِّن لهم الشيطان ، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة .
قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي ، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا ، فتُمْرضُنِي ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الرُّؤيا الصَّالحة من الله ، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ ، وإذا رَأى ما يكرهُ ، فلا يُحدِّثْ به ، وليتفُل عن يساره ، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم ، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره " وقال صلى الله عليه وسلم : " الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ " . قال الراوي : وأحسبه قال : " لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً ، أوْ لَبِيباً " .
قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب ، والرُّؤيا الجيَّدة ، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين ، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر ، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه ، وأمَّا الإعلام بالخير ، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره ، بزمانٍ طويلٍ ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً .
قال القرطبيُّ : " الرُّؤيا حالةٌ شريفة ، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ ، قال صلى الله عليه وسلم : " لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة ، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ ، أو ترى له " وقال صلى الله عليه وسلم : [ أصْدقُكم رُؤيَا ، أصدقكُمْ حَديثاً ، وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين ، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ ، وروي : من أرْبعينَ ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين ، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين .
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ت كان صغيراً ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف يكون لرُّؤياه حكم ، حتى يقول له أبو : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ } .
فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة ، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة ، صدق ؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة .
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح ، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها .
وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرُّؤيا برجْل طائرْ ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا ، فإذا حدَّث بها ، وقعتْ ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً ، أو مُحبًّا ، أوْ ناصحاً " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.