اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (5)

في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم ، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة ؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته ؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً ، وفيها أيضاً : دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً ، وفيها أيضاً : دليلٌ على مع رفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام بتأويلِ الرُّؤيا ؛ فإنه علم من تأويلها : أنَّه سيظهر عليْهم .

قوله { لاَ تَقْصُصْ } قرأ حفص : " يا بُنيَّ " بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، وقرأ العامة : بفك الصادين ، و هي لغةُ الحجاز ، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة ، والإدغام لغة تميم ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة ، عند قوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا .

وقال الزمخشريٌّ : " الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية ، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة ، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث ؛ كما قيل : القربة والقربى " .

وقرأ العامَّة : " الرُّؤيا " مهموزة من غير إمالة ، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : 100 ] : و " رُؤيَاي " الاثنتان في هذه السورة ، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور ، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ .

وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ : " رُيَّايَ وريَّاكَ " بالادغام ، وضم الرَّاء ، وكسرها ، وهي ضعيفة ؛ لأن الواو في تقدير الهمزة ؛ فلم يقو إدغامها ؛ كما لم يقو إدغام " اتَّزَر " من الإزراِ ، و " اتَّجرَ " من " الأجْر " .

يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به ، وهذا هو الغالبُ ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله : " رِئْياً " في قوله : { أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] عند حمزة ، و { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] وأما كسر " ريَّاكَ " فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة ، وأما الضمُّ فهو الأصل ، والياء قد استهلكت بالإدغام .

قوله " فيَكِيدُوا " : منصُوب في جواب النَّهي ، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله : " إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ " .

و " كَيْداً " فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ ، و على هذا ففي اللام في قوله : " لَكَ " خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون " يَكيدُ " ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم ؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه ، وقال : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [ هود : 55 ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد .

قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : " فإن قلت : هلا قيل : فَيَكيدُوكَ " كما قيل : الفعل المضمَّن ، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف ، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك ؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر " .

الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية ، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة ، وبنفسه أخرى ؛ ك " نَصَحَ " و " شَكَرَ " كذا قالهُ أبو حيَّان ، وفيه نظر ؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس ، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة ، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ .

والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به ؛ كزيادتها في قوله : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، قاله أبو البقاء ؛ وهو وضعيفٌ ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول ، أو كون العامل فرعاً .

الرابع : أن تكون اللام للعلَّة ، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك ؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً ، أو اختصاراً .

الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف ؛ لأنَّها حالٌ من " كَيْداً " إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت .

الوجه الثاني من وجهي " كَيْداً " : أن يكون مفعولاً به ، أي : فيصنعوا لك كيداً ، أي : أمراً يكيدُونك به ، وهو مصدر في موضع الاسم ، ومنه : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] ، أي : ما تكيدُون به ؛ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذا ففِي اللاَّم في : " لَكَ " وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل ، ثم صارت حالاً ، أو هي للعلَّة ، وأما الثلاثة الباقية ، فلا تتأتَّى بعد ، فامتناعها واضحٌ .

ثمّ قال : { إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : يزيِّن لهم الشيطان ، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة .

فصل

قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي ، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا ، فتُمْرضُنِي ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الرُّؤيا الصَّالحة من الله ، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ ، وإذا رَأى ما يكرهُ ، فلا يُحدِّثْ به ، وليتفُل عن يساره ، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم ، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره " وقال صلى الله عليه وسلم : " الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ " . قال الراوي : وأحسبه قال : " لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً ، أوْ لَبِيباً " .

قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب ، والرُّؤيا الجيَّدة ، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين ، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر ، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه ، وأمَّا الإعلام بالخير ، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره ، بزمانٍ طويلٍ ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً .

فصل

قال القرطبيُّ : " الرُّؤيا حالةٌ شريفة ، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ ، قال صلى الله عليه وسلم : " لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة ، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ ، أو ترى له " وقال صلى الله عليه وسلم : [ أصْدقُكم رُؤيَا ، أصدقكُمْ حَديثاً ، وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين ، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ ، وروي : من أرْبعينَ ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين ، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين .

فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ت كان صغيراً ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف يكون لرُّؤياه حكم ، حتى يقول له أبو : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ } .

فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة ، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة ، صدق ؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة .

فصل

في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح ، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها .

وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرُّؤيا برجْل طائرْ ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا ، فإذا حدَّث بها ، وقعتْ ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً ، أو مُحبًّا ، أوْ ناصحاً " .