التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية من غير خلاف ، وفي فضلها وعظيم قدرها مع سورة البقرة يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : " تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان{[1]} يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان " {[2]} .

وقد تضمنت هذه السورة فيضا من المعاني والمشاهد والمواقف والأحكام مما نعرض له بمشيئته الله وعونه وكلاءته في هذا التفسير .

ويأتي في طليعة ذلك كله الحديث عن حروف التهجي ، وهي الألف واللام والميم . وهذه واحدة من فواتح السور المبدوءة بها سورتنا هذه .

ومن مضامين هذه السورة أيضا إطراؤها للكتب السماوية الثلاثة وهي التوراة والإنجيل والفرقان . وأن هذه الكتب قد جيء بها لبني البشر من أجل هدايتهم وترشيدهم ، وكيما يمضوا في هذه الحياة آمنين سالمين أخيار وقد أظلتهم أفياء الخير والمودة والعيش المطمئن الراغد .

وفي السورة بيان بأن هذا الكتاب الحكيم شطران ، أحدهما : آيات محكمات أي واضحات مستبينات . وهذا الشطر الأعظم من كتاب الله لا جرم أنه المتسع الأكبر لكل قضايا الدين والدنيا ، وأنه المعين الفياض الذي تستمد منه البشرية على مر الزمن كل معاني الخير والهداية ، وعامة قضايا الحكمة والمعرفة والتشريع .

ثانيهما : آيات متشابهات . أي غير واضحات من حيث معناها أو المراد منها ، بل هن محتملات مجملات لا يظهر مقصودها إلا بالنظر والتمحيص البالغين ، وإنما يناط ذلك بنخبة من أولي العلم والنظر ليبذلوا قصارى تفكيرهم واجتهادهم عسى أن يقفوا على المراد من مثل هذه الآيات المتشابهات .

وفي هذا الصدد يحذر الله سبحانه من فريق متحذلق يصطنع العلم والمعرفة اصطناعا . أولئك الذين يخوضون في كلام الله بغير حق ولا بصيرة ، والذين تلوك ألسنتهم مقالات التحريف والفتنة متذرعين بالظواهر لمثل هذه الآيات المتشابهان بقصد أو بغير قصد . وفي ذلك من الفتنة والتضليل وتشويش الأذهان ما لا يخفى .

وتذكر السورة بما جبل عليه الإنسان من ميل للشهوات الحقيقية ، الشهوات الأساسية المركوزة التي غالبا ما تأسر أعصاب الإنسان وعقله أسرا ، وهو بدوره يجنح خلفها جنوحا إلا أن يكون له زاد ضخم ورصين من اعتصام كإرادة صلبة مكينة ، أو عقيدة راسخة متينة تمسك بزمام الإنسان كله لتسلك به مسالك الخير والنجاة ، فلا يضل أو يزل أو يتردى .

وفي طليعة هذه الشهوات حب النساء . لا جرم أن ذلك حب راسخ ومفطور ، بل إن إحساس بالغ ومستكن لا مندوحة للإنسان عن مراعاته تمام المراعاة ، ولكن في غاية من الاهتمام والاتزان ومن غير تسيب في ذلك ولا فوضى ، وكلمة الإسلام في ذلك لهي خيرا ما عرفته البشرية في هذا الصدد . وهو ما نعرض له في حينه لدى الكلام عن تفسيره هذه الآية .

وكذلك حب البنين . وهم الأولاد والأحفاد ، فلذات الأكباد . وهو بعض آبائهم وأمهاتهم ؛ بل غنهم جزء من كيانهم العضوي والعقلي والروحي ، فلا يبرح المرء- ذكرا أو أنثى- حتى تراوده موجة الحب والحنين لولده ، فضلا عن استئثار البنين بالاعتبار الظاهر لدى العرب ، وهم يجدون في أبنائهم وسيلة للتعضيد والظهور في زحمة الواقع .

وكذلك حب المال . فإنه يستأثر بالنسبة الكبرى لحب البشرية وولعها بالدنيا ولذائذها وزخارفها . لا جرم أن حب المال قد استحوذ على قلب الإنسان وعلى طبعه وأعصابه ، فبات بذلك رهين هذه الشهوة الراسخة اللحاحة ، بل إن الإنسان على اختلاف أجناسه وتصوراته ومعتقده لا يبرح قلبه حب المال والرغبة المستديمة في الاستزادة من أكداسه الطائلة المركومة .

وتتضمن السورة الكريمة أيضا هذا القرار الرباني الحاسم . القرار الإلهي الأعظم الذي لا يخالطه شيء من ريبة أو زيغ . وإنما هو القرار الكامل الأمثل الذي يضع البشرية على الطريق السوي المتوازن ، بل يضعها على المحجة الناصعة المستقيمة ، المحجة السليمة من أي خلل أو اعوجاج ، وذلك بعد أن استكملت البشرية دورتها في عجلة الحياة السائرة الدائرة ، فاستقر بها الشأن إلى حال مكتمل من الثبات والتوازن والاعتدال . وهي في ذلك إنما يصلح حالها كله في ظل الإسلام الذي قرره الله للبشرية دينا كاملا شاملا طيلة حياتها الدنيا هذه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ذلكم هو القرار الكوني المجلجل الذي كتبه الله لعباده إذ جعل لهم الإسلام وحده دينهم المميز الأمثل ليرسم للبشرية من خلاله حياتها الكريمة الفضلى . حياة حافلة بالخير والعدل والنجاة والرحمة . فقال عز من قائل : ( إن الدين عند الله الإسلام ) .

وتتضمن السورة كذلك جملة اصطفاءات ربانية مميزة ، أولها اصطفاء آدم أبي البشر إذ خلقه الله من تراب على نحو مغاير للكيفية التي خلق بها بقية البشر حيث التناكح والإنجاب . ثم نوح ، وهو الأب الثاني للبشر بعد أن أهلك الله السالفين لما كفروا ولجوا بالجحود والعناد فأخذهم الطوفان الهادي فغرقهم تغريقا .

ثم آل إبراهيم . هذا النبي العظيم الخليل الذي جعل الله في ذريته النبوة فكان فيهم النبيون والمرسلون من بني إسرائيل . وهذا النبي خاتمهم الأكرم محمد صلى الله عليه و سلم .

وكذلك آل عمران إذ جعل الله من نسله خير نساء العالمين . تلك المرأة الطاهرة البتول الفضلى ( وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) هذه المرأة المبرأة المصون ، عنوان الطهر والعفاف ، قد كتب الله أن تحقق من خلالها معجزته العجيبة الخالدة بولادتها المسيح من غير أب ليكون نبيا وسيدا وحصورا .

وتتضمن السورة أيضا تقريرا لحقيقة راسخة ثابتة ، وهي انتفاء اليهودية والنصرانية عن سيدنا إبراهيم عليه السلام لتقرر في مقابل ذلك أن خليل الله إنما كان حنيفا مسلما ، أي أنه كان على فطرة التوحيد الخالص الذي لا يخالطه ذرة من إشراك ، خلافا لليهودية والنصرانية اللتين خالطهما الشرك على اختلاف صورة سواء في ذلك عبادة بعض النبيين أو الأشخاص أو غيرهم من أشكال الهوى .

وتتضمن السورة أيضا إظهارا لشأن البيت الحرام حيث الكعبة المعظمة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا . وفي هذا الصدد من تكريم الكعبة وإطرائها يأتي ذكر الحد إذ جعله الله فرضا على كل مسلم قادر عاقل بالغ مستطيع .

ومما تضمنته هذه السورة كغيرها من السور الكثيرة المدنية قصة بني إسرائيل مع الأمم على امتداد الأحقاب والأدهار . وهي قصة لا جرم أنها طويلة ومريرة ومثيرة للدهش والتعجب ، إنها قصة الكيد للبشرية والتآمر عليها في قيمنها ومقوماتها وعظمائها من النبيين والمصلحين . وقد تجلى ذلك في صور شتى من ألوان الكيد ما بين قمع وقتل وتدمير وإبادة . إلى غير ذلك من وجوه السلب للخيرات والثروات واغتصاب الديار والأوطان وتشويه المبادئ والحقائق والأديان ونشر الفوضى والإرهاب والترويع والفساد ، يضاف إلى ذلك أيضا كيد الصليبية الحاقدة الظالمة ، الصليبية المتربصة المتعصبة التي لا تقيم وزنا لدين من أديان السماء ، ولا لقيمة من قيم الحق والإنسانية ، إلا التعصب الفاجر الأعمى ، والحقد الأسود المركوم ، الحق الذي يتخلل النفسية الغربية فيشوبها بشائبة الكراهية المقيتة للإسلام والمسلمين .

وتتضمن السورة أيضا قصة أحد وما حوته هذه المعركة من دروس جليلة مستفادة ما كان ينبغي أن تغيب عن أهان المسلمين في يوم من الأيام ، ويأتي في طليعة ذلك أن النصر المنزل من عند الله إنما يكتبه الله لعباده الأبرار الذين أخلصوا دينهم وسائر أعمالهم لله وحده ، فلم يخالطهم في ذلك أيما توجه نحو لعاعة من لعاعات الدنيا أو حظوة من حظواتها ، كالمال أو الجاه أو السلطان أو غير ذلك من وجوه الشهوة والهوى .

وغير ذلك من المواضيع والمسائل والمعاني كثير نقف عليه غي حينه إن شاء الله .

سبب نزول السورة :

قال المفسرون في نزول صدر سورة آل عمران إلى بضعة وثمانين آية : قدم وفد من نصارى نجران على رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا ستين راكبا وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم . ومن بينهم ثلاثة نفر يئول إليهم أمرهم ، وهم : أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه وهو عبد المسيح : ثم إمامهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم ، ثم أبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم ، فقد قدموا جميعا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ودخلوا مسجده حين صلى العصر وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة ، ولما حانت صلاتهم قاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال رسول الله : " دعوهم " فصلوا إلى المشرق ، فكلم أميرهم عبد المسيح وإمامهم الأيهم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أسلما " فقالا : قد أسلمنا قبلك . قال : " كذبتما منعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير " قالا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعا في عيسى ، فقال لهما النبي صلى الله عليه و سلم : " ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ " قالوا : بلى ، قال : " ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى أتى عليه الفناء ؟ " قالوا : بلى . قال : " ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟ " قالوا : بلى . قال : " فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ " قالوا : لا . قال : " فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ؟ " قالوا : بلى . قال : " ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذي كما يغذي الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ " قالوا : بلى . قال : " فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ " فسكتوا ، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضعة وثمانين آية منها{[3]} .

البيان التفصيلي للسورة

بينا سابقا أن هذا السورة حافلة بالمعاني الزاخرة والمشاهد والأحكام الظاهرة مما نعرض لكل من ذلك في حينه بعون الله .

قوله تعالى : ( ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) .

نبادر هنا بالحديث عن الأحرف الهجائية الثلاثة التي بدئت بها هذه السورة وهي الألف واللام والميم على نحو ما بيناه في سورة البقرة عن هذه المسألة .

وهذه الأحرف الثلاثة واحدة من فواتح السور التي بدئ بها كثير من سور الكتاب الحكيم ، على أن الكلام في تفصيل هذه الأحرف الفواتح طويل مما هو موضع تفصيل وخلاف بين العلماء . حتى إن تأويل ذلك قد بلغ من الأقوال بضعا وعشرين وهي أقوال يميزها العمق والتباين والتفاوت{[383]} لكننا نقتضب منها أقوالا ثلاثة هي :

القول الأول : وهو أن مثل هذا العلم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به . وقد ذهب إلى ذلك فريق من الصحابة وآخرين . وفي هذا الصدد يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لله في كل كتاب سر . وسره في القرآن أوائل السور .

وقال علي رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي .

وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه . وروي عن ابن عباس قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وقال الحسين بن الفضل : هو من المتشابه ، لكن أهل الكلام أنكروا هذا القول وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق ، واحتجوا على ذلك بالآيات والأخبار والمعقول{[384]} .

القول الثاني : وهو قول قطرب . وهو أن الكفار لما قالوا : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وتواصوا بالإعراض عنه ، أراد الله تعالى أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبب لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليه من القرآن ، فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد صلى الله عليه و سلم : فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن ، فكان ذلك سببا لاستماعهم واسترعاء أذهانهن وقلوبهم{[385]} .

ومثل هذا القول معقول وسديد إذا أدركنا ما كان يجده العرب الأقدمون من روعة اللمس والتأثير وهم يتسمعون للقرآن في أول مرة ، فما كانوا يتسمعون لهذا الكلام الحكيم الفذ إلا وهو يجدون برد الإيقاع العجيب يمس قلوبهم ومشاعرهم مسا . ومن أجل ذلك تواصوا فيما بينهم أن يبادروا بالتشويش من لغط الكلام الفارغ اللاغي ما يحول بين القرآن وعقولهم ، حتى بودروا بمثل هاتيك الفواتح من حروف التهجي فما استوقفهم استيقافا ونشر في قلوبهم وأفكارهم غاشية من الوجوم الغامر المذهل . فما كانوا لينصتوا ويستمعوا حتى تفجأهم ألفاظ القرآن بسحائب كثاف مجلجلة من البهر القارع والجمال المستحوذ الأخاذ{[386]} .

القول الثالث : وهو قول المبرد وكثير من المحققين ، إذ قالوا : إن الله تعالى إنما مثل هذه الفواتح احتجاجا على الكفار . وذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن . فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله وليس من عند البشر{[387]} .

ومثل هذا التأويل لا يقل –في نظري- سدادا ومعقولية عن التأويل الثاني السابق ؛ لما في ذلك من استنهاض للوجدان والحس والذهن جميعا كيما يصحو على الحقيقة الساطعة البلجة الماثلة للفطرة السليمة في هذا الكلام المعجز .


[1]:مختار الصحاح للرازي ص 461.
[2]:مختار الصحاح ص 236.
[3]:مختار الصحاح ص 338.
[383]:- التفسير الكبير للرازي جـ1 ص 3-10.
[384]:- التفسير الكبير جـ 1 ص 3 ، 4.
[385]:- التفسير الكبير جـ1 ص 7.
[386]:- التفسير الكبير جـ 1 ص 7.
[387]:- التفسير الكبير جـ 1 ص 7.