التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } .

بعد استقرار الحال في جزيرة العرب ودخول المشركين في دين الله أفواجا مسلمين ، أمر الله في هذه الآية بقتال أهل الكتاب . بذلك أمر الله في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستعداد لقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع . ومن أجل ذلك تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم في تبوك . وقد اجتمع له من المقاتلة نحو ثلاثين ألفان ويستدل من هذه الآية أن الجزية إنما تؤخذ من أهل الكتاب فقط أو من أشبههم المجوس ؛ فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر . وبذلك لا تؤخذ الجزية من غير أهل الكتاب كالمشركين والوثنين ، وهذا مذهب الشافعية والحنبلية ، أما الحنفية الجزية عندهم من جميع الأعاجم سواء فيهم أهل الكتاب أو المشركين ، لكنها لا تؤاخذ من العرب من غير أهل الكتاب ولا من المرتدين ؛ لأن كفر هؤلاء قد تغلظ ؛ فمشركو العرب قد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، والقرآن نزل بلغتهم ، فالمعجزة في حقهم أظهر . أما المرتد : فلأنه كفر بربه بعد أن هدى للإسلام ووقف على روائعه وكماله ، فلا يقبل من الفريقين سوى الإسلام أو القتال زيادة في العقوبة .

أما الإمام مالك فقال بجواز أخذ الجزية من جميع الكفار ، من أهل الكتاب والمجوس والوثنين{[1749]} .

قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر } نفي الله بالإيمان بالله عن أهل الكتاب ؛ لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ؛ إذ يصفون الله بما لا يليق أن يوصف به ؛ فقد جعلوا له والدا ؛ كيهود جعلت عزيزا ابن الله ، والنصارى جعلوا المسيح ابن الله وقالوا بالأقانيم الثلاثة ، إلى غير ذلك من المقولات المفتراة الظالمة فصارت بذلك عقائدهم مجرد تخيلات موهومة وتصورات مظنونة لا تطوي على غير التخريص الفاضح والضلال الشاطح دون استناد إلى ذرة من دليل سليم . من أجل ذلك نفي الله عنهم الإيمان به . وفوق ذلك فإنهم كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحسبهم ذلك ضلالة وكفرنا ، مع أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .

وكذلك فإن إيمانهم بالآخرة مريب ومصطنع ؛ فقد أنقل عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني . ومثل هذا التصور لا يستحق مجرد التسمية بالإيمان ؛ لأن ما يتقولونه ويهرفون به ليس إلا ضربا من التصور المريض الواهم ، أو الحلم المطوح في الخيالات من عالم اللاشعور . وليس ذلك من الإيمان في شيء .

قوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يتبعوا دينه ولا شريعته ففيهما ما احل الله ورسوله أو حرم . وقيل : المراد بالرسول رسولهم الذي يزعمون أنهم يتبعونه ؛ فإنهم بدلوا شريعته ، واحلوا ما حرم الله عليهم وحرموا ما احل الله لهم . وكل ذلك من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم ؛ فهم بذلك لم يتبعوا شريعة الإسلام القائمة على الكتاب والسنة ، ولم يتبعوا شريعتهم المنزلة على رسلهم ؛ فهم بذلك غير مؤمنين إيمانا صحيحا لا بشريعتنا ولا بشريعتهم الخالصة المبرأة من التزييف والتحريف ، فما يزعمون لأنفسهم من إيمانا بما ليس له وزن أو اعتبار لما بيناه ؛ فوجب بذلك قتالهم .

قوله : { ولا يدينون دين الحق } أي الدين الثابت الكامل ، الدين الحقيق الصحيح الذي تصلح عليه البشرية طيلة الدهر ، الدين الذي تجتمع فيه مزايا الصلوح للحياة في كل مكان وزمان ؛ وذلكم هو الإسلام دون غيره من الأديان والملل والشرائع . لكن أهل الكتاب إنما يدينون ما تسوله لهم أهواؤهم وغرائزهم وشهواتهم ومنافعهن الدنيوية ؛ فهم بذلك دينا سماويا حقيقا سليما من التلاعب والتبديل ، وما يزعمونه أنهم أهل كتاب ليس إلا التوهيم المكشوف الذي لا يخفى على أحد ، وهو ليس إلا التحذلق المصطنع الذي لا يغني من الحق شيئا . لا جرم أن اليهود والنصارى أبعد الناس كافة عن حقيقة التوراة العظيمة ذات التشريع الرباني النافع ، وعن حقيقة الإنجيل الرفاف الساطع الذي ينهي أشد النهي عن الفساد والشر والعدوان وظلم الإنسان لأخليه الإنسان . وما نجده أو نسمعه أو نقرأه من أخبار مذهلة عن فظائع اقترافها اليهود والنصارى في حق البشرية والمسلمين خصوصا يبرأ منها كليم الله موسى وروح الله عيسى المسيح . وهي فظائع شنيعة تجعل من انتساب هؤلاء الظالمين للتوراة والإنجيل شيئا مستهجنا ، مثيرا للسخرية والاشمئزاز . إن هذه الفظائع تطبع هؤلاء الجناة بطابع الوحوش الكواسر في الغابات ، لا جرم أن دين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مبرآن من أفاعيل هؤلاء الطغاة الذين نكلوا بالشعوب المسلمة تنكيلا ، والذين أذاقوا المسلمين وغيرهم عبر زمان طويل أعتى النوازل والويلات ، وما زالوا على هذه الحال من تقتيل للمسلمين وترويعهم في كل بقاع الدنيا .

قوله : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } والجزية ، من الجزاء وهي للإجزاء عن حقن دم الذمي . والجزية اسم مفرد وجمعه جزي مثل : لحية ولحي{[1750]} . أما الجزية في اصطلاح الشرعي : فهي المال الذي يؤخذ بعقد من أهل الكتاب لإقامتهم بدار الإسلام آمنين ، وذلك على سبيل الإسهام في بناء الدولة التي ينعمون بالأمن والخير في ظلها{[1751]} .

ممن تقبل الجزية

اجمع المسلمون على قبول الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بدينهم كالسامرة الذين يدينون بالتوراة ويعملون بشريعة موسى . وكذلك النصارى وفرقهم من اليعقوبية والنسطورية وغيرهم ممن دان بالإنجيل .

أما الصابئة : فملتهم وعقيدتهم موضع خلاف ؛ فقد قيل : إنهم جنس من النصارى . وقيل : إنهم من اليهود ؛ لأنهم يسبتون ، وقيل غير ذلك .

أما الذين لهم شبهة كتاب : فهم المجوس ؛ فإنه يروي أنه كان لهم كتاب قديم فصار لهم بذلك شبهة وجب بها أن تحقن دماؤهم ، وأن تؤخذ منهم الجزية لكنهم لا تنكح نساؤهم ولا تحل ذبائحهم . وقد ذهب إلى هذا أكثر العلماء{[1752]} .

المشركون من غير أهل الكتاب

والمراد بهم الكافرون من غير اليهود والنصارى والمجوس ؛ أي بعدة الأوثان الذين ليس لهم كتاب منزل كعبدة الناس والشمس والقمر والكواكب والتماثيل والأحجار وغير ذلك من أشكال الأوثان . ويحلق بهم الدهريون والماديون والملحدون الذين يجحدون النبوة والأديان والرسالات جميعا ؛ فهؤلاء من حيث وجوب الجزية في حقهم موضع خلاف . وثمة أقوال في ذلك :

القول الأول : وهو أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم ، ولا تؤخذ من عبدة الأوثان من العرب ؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد نشأ بين أظهرهم ، وقد أنزل القرآن بلغتهم ، فالمعجزة في حقهم أظهر ؛ فلا يقبل منهم غير الإسلام أو قتالهم . وهو قول الحنفية .

القول الثاني : وهو أن الجزية مال يضربه الإمام على كل كافر سواء كتابيا أو مشركا أو غيرهما ولو كان قرشيا . وهو قول المالكية{[1753]} .

القول الثالث : وهو قول الشافعية والحنبلية وأهل الظاهر ؛ فقد ذهب هؤلاء إلى أنه لا يقر عبدة الأوثان والملائكة والشمس والقمر والنجوم ونظائرهم ؛ فلا تؤخذ منهم الجزية ، ولا يقبل منهم غير الإسلام أو القتال . واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وذلك عام وقد خص منه أهل الكتاب . وكذلك خص فيه المجوس بالخبر : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) {[1754]} .

أركان الجزية

ثمة أركان خمسة للجزية هي :

الركن الأول : الصيغة . وهي الإيجاب والقبول ، فالإيجاب من الإمام أو نائبه ؛ فهو الموجب ؛ إذ يقول لهم : أقررتكم ، أو أقركم . ثم القبول من الطرف الآخر وهو المؤدي للجزية ، فيقول : قبلت أو رضيت بذلك .

الركن الثاني : العاقد ، وهو الإمام أو نائبه ، ولا يصح عقد الجزية من غيرهما .

الركن الثالث : المعقود له ، وله شروط هي :

أولا : العقل ؛ فلا تجب الجزية على المجنون ذي الجنون المطبق ؛ لعدم تكليفه .

ثانيا : البلوغ ؛ فلا تجب الجزية على الصبي لعدم تكليفه .

ثالثا : الحرية ؛ فلا تجب على العبد ؛ لأنه مملوك لصاحبه ؛ فهو غير مكلف .

رابعا : الذكورة ؛ فلا تجب الجزية على النساء ؛ لأنهن لسن من أهل القتال .

خامسا : أن يكون المعقود له كتابيا وهم النصارى واليهود . وكذلك المجوس لما فيهم من شبهة كتاب .

الركن الرابع : المكان القابل للتقرير ، وهو سائر بلاد الإسلام باستثناء الحجاز{[1755]} .

على أن الجزية لا تؤخذ من كل من الزمن وهو الذي أصابته هاعة أو آفة ولا يرجي برؤه منها ولا يقدر على القتال .

ثم الأعمى ؛ لأنه ليس من أهل القتال ؛ لعدم قدرته على ذلك ؛ فهو في ذلك كالصبيان والنساء . وهو قول أكثر أهل العلم .

وكذلك الشيخ الهرم ؛ وهو الكبير الفاني ؛ فغنه غير مطالب بالجزية في قول أكثر العلماء ، وهو قول الحنفية والمالكية والحنبلية ، والشافعية في أحد القولين لهم . وعلى هذا لا تجب الجزية على كل من الزمن والأعمى والشيخ الكبير الفاني . وهم في ذلك كالنساء والصبيان ؛ لعجزهم عن القتال .

وكذلك الفقير غير المعتمر ؛ فإنه غير مطالب بأداء الجزية ، وهو قول أكثر العلماء . ووجه ذلك : أن الفقير العاجز غير مكلف ؛ لقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } واحتجوا أيضا بما أخرجه البيهقي عن محمد بن عبد الله الثقفي قال : وضع عمر بن الخطاب –يعني الجزية- على رؤوس الرجال ، على الغني ثمانية وأربعين درهما ، وعلى الوسط أربعة وعشرون درهما ، وعلى الفيقر اثني عشر درهما . وقالوا المراد بالفقير هنا غير المعتل .

وكذلك الرهبان من النصارى ، ومصدره الرهبة والرهبانية ، وتعني التعبد بما فيه الاختصاء واعتناق السلاسل وليس المسوح ونحو ذلك{[1756]} ؛ فإن هؤلاء على العموم لا تجب في حقهم الجزية ، وهو قول الحنفية والمالكية ، خلافا للشافعية وأهل الظاهر{[1757]} .

قوله : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } { حتى } ، للغاية التي تمتد إليها العقوبة ، وهذه ترتفع بالبدل وهي الجزية . و { عن يد } ، يراد بها يد المعطي ؛ وهي أن تكون مؤاتية غير ممتنعة لأن من أبي وامتنع لم يعط يده ، وذلك بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك يقال : أعطى يده إذا انقاد أطاعه . وقيل : حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ليس مبعوثا عن يد أحد ولكن عن يد المعطي على يد الآخر . وقيل غير ذلك .

أما قوله : { وهم صاغرون } يعني أذلاء خاضعون مطيعون للدولة التي يعيشون في ظلها وه دولة الإسلام .

وهذه واحدة من المسائل التي يثار من اجلها اللغط والتهويش والتشويش على الإسلام بقصد الطعن فيه وتجريحه والإساءة إليه ، أو لكي ينفروا منه أهل الكتاب تنفيرا بعد أن يغرسوا في نفوسهم الحقد والكراهية لهذا الدين .

إن مسألة الجزية قد اتخذها الصليبيون والمستشرقون والاستعماريون والعملاء والأتباع الناعقون من ورائهم –سبيلا يلجون منه على الإسلام من اجل تشويهه في أنظار الناس . ولقد سيق كثير من المثقفين والدارسين خلف هذه الدعاية الخبيثة التي أثارها أسيادهم من جهابذة الاستعمار والصليبية والاستشراق ؛ أولئك الذين تتقطع قلوبهم وأعصابهم تغيظا من الإسلام ، فهم دائما عاكفون بغير كلالة ولا كلل على الكيد للإسلام بكل أساليب الطعن والقدح والتشويه ، وهم في ذلك كله لا يسندهم منطق ولا تشفع لهم حجة سليمة إلا الغيظ ومحض التعصب والجهالة .

والمسألة في غاية البساطة لو تصورها الخصوم والجاهلون والمارقون فأحسنوا تصورها . وهي أن الجزية مبلغ محمد من المال يؤديه غير المسلم إسهاما منه في بناء الدولة التي يعيش في ظلها والتي ينعم في أمنها ورخائها كغيره من الناس . وهي في مقابل فريضة الزكاة التي يؤديها المسلم للدول ، بل إن الجزية دون الزكاة كثيرا ، وهي لا يؤديها غير القادرين من العاجزين كالفقراء والصبيان والنساء والشيوخ ؛ فلا داعي إذن لكل هذه الضجة المصطنعة الفاجرة ولمثل هذا اللغط المستعمر المحموم ! لا داعي لكل هذا الافتراء على الإسلام والإساءة إليه ما دامت المسألة مجرد مبلغ محدود وهين من المال يؤديه غير المسلم ليشارك المسلمين في بناء البلاد وإعمارها . وهذا المبلغ من المال لا يعدو أن يكون نظيرا للضريبة التي يؤديها المواطن للدولة التي يستظل بظلها . وهل كان إلزام الناس بدفع الضرائب قسرا ، مثيرا لمثل هذا الصخب العارم الذي يثيره الاستعماريون والصليبيون والمستشرقون وأتباعهم من العملاء حول الإسلام ؟ ! إنه لا شيء من ذلك . لكنه الحقد الطاغي والمركوز ، والكراهية المسيطرة العمياء ، والتعصب الجهول الذي تتعطل من خلاله العزائم والضمائر والإرادات .


[1749]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 347 وبداية المجتهد جـ 1 ص 421 والهداية للمرغيناني جـ 3 ص 453.
[1750]:لسان العرب جـ 14 ص 146 وتاج العروس جـ 10 ص 73.
[1751]:أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 ص 908 وبدائع الصنائع جـ 7 ص 109.
[1752]:شرح فتح القدير للكمال بن الهمام جـ 6 ص 48 وأحكام القرآن للجصاص جـ 4 ص 282 وحاشية الشرقاوي جـ 2 ص 211.
[1753]:روح المعاني جـ 5 ص 78 وتفسير ابن كثير جـ 2 ص 347 والبحر المحيط جـ 5 ص 30.
[1754]:المغنى جـ 8 ص 497 والأنوار جـ 2 ص 558.
[1755]:مغني الحتاج جـ 4 ص 248 والأحكام السلطانية ص 145 وبلغة السالك جـ 1 ص 368 وأحكام القرآن للجصاص جـ 4 ص 294.
[1756]:القاموس المحيط جـ 1 ص 79 ومختار الصحاح ص 259.
[1757]:شرح فتح القدير جـ 6 ص 52 وأحكام القرآن للجصاص جـ 4 ص 289 والأنوار للأردبيلي جـ 2 ص 558 والمحلي جـ 7 ص 347.