التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٞ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ} (48)

فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح عليه السّلام وربّه ، فإنّ نوحاً عليه السّلام لما أجاب بقوله : { ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود : 47 ] إلى آخره خاطبه ربه إتماماً للمحاورة بما يسكّن جأشهُ .

وكان مقتضى الظاهر أن يقول : قال يا نوح اهبط ، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قوله : { وقيل يا أرض ابلعي . . . وقيل بعداً للقوم الظالمين } [ هود : 44 ] فحصل بذلك البناء قضاء حق الإشارة إلى جزء القصة ، كما حصل بالفصل قضاء حق الإشارة إلى أن ذلك القول جزء المحاورة .

ونداء نوح عليه السّلام للتنويه به بين الملأ .

والهبوط : النزول . وتقدم في قوله : { اهبطوا مصراً } في سورة [ البقرة : 61 ] . والمراد : النزول من السفينة لأنّها كانت أعلى من الأرض .

والسّلام : التحيّة ، وهو مما يخاطب بها عند الوداع أيضاً ، يقولون : اذهب بسلام ، ومنه قول لبيد :

إلى الحول ثم اسْم السلام عليكما

وخطابه بالسلام حينئذٍ إيماء إلى أنه كان في ضيافة الله تعالى لأنه كان كافلاً له النجاة ، كما قال تعالى : { وحملناه على ذَات ألواحٍ ودُسرٍ تجري بأعيننا } [ القمر : 13 ، 14 ] .

وأصْل السّلام : السّلامة ، فاستعمل عند اللقاء إيذاناً بتأمين المرء ملاقيه وأنّه لا يضمر له سوءاً ، ثم شاع فصار قولاً عند اللقاء للإكرام . وبذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا : السّلام على الله ، فقوله هنا : { اهبط بسلام } نظير قوله : { ادخلوها بسلام آمنين } [ الحجر : 46 ] فإن السلام ظاهر في التحية لتقييده ب ( آمنين ) . ولو كان السّلام مراداً به السلامة لكان التقييد ب ( آمنين ) توكيداً وهو خلاف الأصل .

و { منا } تأكيد لتوجيه السّلام إليه لأنّ ( من ) ابتدائية ، فالمعنى : بسلام ناشىء من عندنا ، كقوله : { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ } [ يس : 58 ] . وذلك كثير في كلامهم . وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشدُّ مبالغة من الذي لا تذكر معه ( من ) .

والباء للمصاحبة ، أي اهبط مصحوباً بسلام منّا . ومصاحبة السّلام الذي هو التّحية مصاحبة مجازية .

والبركات : الخيرات النامية ، واحدتها بركة ، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء .

ولما كان الداعون بلفظ التحيّة إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح عليه السّلام ومن معه ، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم .

و ( عليك ) يتعلق ( بسلام ) و ( بركات ) وكذلك { وعلى أُمم ممن معك } .

والأمم : جمع أمة . والأمة : الجماعة الكثيرة من الناس التي يَجمعها نسب إلى جدّ واحد . يقال : أمّة العرب ، أو لغةٌ مثل أمة الترك ، أو موطن مثل أمة أمريكا ، أو دين مثل الأمة الإسلامية ، ف { أمم } دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح عليه السّلام .

وليس الذين ركبوا في السفينة أمماً لقلة عددهم لقوله : { وما آمن معه إلاّ قليل } [ هود : 40 ] . وتنكير { أمم } لأنّه لم يقصد به التعميم تمهيداً لقوله : { وأمم سنمتعهم } .

و ( مِن ) في { ممّن معك } ابتدائية ، و ( مَن ) الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح عليه السّلام في السفينة . ومنهم ابناؤه الثلاثة . فالكلام بشارة لنوح عليه السّلام ومن معه بأن الله يجعل منهم أمماً كثيرة يكونون محلّ كرامته وبركاته . وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمماً بخلاف ذلك ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله : { وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } .

وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحاً بالسلام والبركات وشرّك معه فيهما أمماً ناشئين ممن هم معه ، وفيهم الناشئون من نوح عليه السلام لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده . فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادىء بدء قبل نسلهم إذ عُنون عنهم بوصف معية نوح عليه السّلام تنبيهاً على سبب كرامتهم . وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح عليه السّلام ، فحصل تنويه نوح عليه السّلام وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع .

وجملة { وأمم سنمتعهم } إلخ ، عطف على جملة { اهبط بسلام منا } إلى آخرها ، وهي استئناف بياني لأنّها تبيين لما أفاده التنكير في قوله : { وعلى أمم ممن معك } من الاحتراز عن أمم آخرين . وهذه الواو تسمى استينافية وأصلها الواو العاطفة وبعضهم يرجعها إلى الواو الزائدة ، ويجوز أن تكون الواو للتقسيم ، والمقصود : تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا ، والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنهم من ذريّة نوح ولم يتبعوا سبيل جدّهم ، فأشعروا بأنّهم من الأمم التي أنبأ الله نوحاً بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم . ونظير هذا قوله تعالى : { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } [ الإسراء : 3 ] أي وكان المتحدث عنهم غير شاكرين للنعمة .

وإطلاق المس على الإصابة القوية تقدّم عند قوله تعالى : { وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو } في [ الأنعام : 17 ] .

وذكر { منا } مع { يمسهم } لمقابلة قوله في ضدّه { بسلام منا } ليعلموا أنّ ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسببّات العادية على أسبابها ، إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسّموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألْسنة الرسل ، فإنّ الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها . ومثاله ما هنا فقد بيّن لهم على لسان نوح عليه السّلام أنّه يمتع أمماً ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون .