البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٞ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ} (48)

بني الفعل للمفعول ، فقيل : القائل هو الله تعالى ، وقيل : الملائكة تبليغاً عن الله تعالى .

والظاهر الأول لقوله : منا .

وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض ، والباء للحال أي : مصحوباً بسلامة وأمن وبركات ، وهي الخيرات النامية في كل الجهات .

ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي : اهبط مسلماً عليك مكرماً .

وقرىء اهبط بضم الباء ، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذاناً له بمغفرة ربه له ورحمته إياه ، وبإقامته في الأرض آمناً من الآفات الدنيوية ، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان ذلك تبشيراً له بعود الأرض إلى أحسن حالها ، ولذلك قال : وبركات عليك أي دائمة باقية عليك .

والظاهر أنّ من لابتداء الغاية أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر .

قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات .

وقيل لهم : أمم ، لأنّ الأمم تشعبت منهم انتهى .

وهذا فيه بعد تكلف ، إذ يصير التقدير : وعلى أمم هم من معك ، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه ، وعلى أمم معك أو على من معك ، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم ، وأبعد عن اللبس .

وارتفع أمم على الابتداء .

قال الزمخشري : وسنمتعهم صفة ، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأن قوله : ممن معك ، يدل عليه ، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك ، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى .

ويجوز أن يكون أمم مبتدأ ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، والتقدير : وأمم منهم أي ممن معك ، أي ناشئة ممن معك ، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه ، فحذف منه وهو صفة لمنوان ، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة .

ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم ، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل ، فكان مثل قول الشاعر :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحول

وقال القرطبي : ارتفعت وأمم على معنى : ويكون أمم انتهى .

فإنْ كان أراد تفسير معنى فحسن ، وإن أراد الإعراب ليس بجيد ، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول كلمت : زيداً وعمرو جالس انتهى .

فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، واحتمل أنْ تكون الواو للحال ، وتكون حالاً مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة .

وقال أبو البقاء : وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره : اهبط أنت وأمم ، وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد ، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى .

وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان ، لأنّ الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله : ومن آمن ، ولم يكونوا قسمين كفاراً ومؤمنين ، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح ، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد ، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون ، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة ، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة ، وذلك من باب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد كثير الرماد .

وظاهر قوله : ممن معك يدل على أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه ، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط ، أو معهم نساؤهم ، انتظم قول المفسرين أنّ نوحاً عليه السلام هو أبو الخلق كلهم ، وسمي آدم الأصغر لذلك .

وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد ، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم ، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر ، إلا إن أريد بالذين معه أولاده ، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص .

وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه ، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين ، بل هم عبارة عن الكفار .

وقيل : هم قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، عليهم الصلاة والسلام .