تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٞ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ} (48)

وقوله تعالى : ( قيل يا نوح اهبط ) قال بعضهم : أي انزل من الجودي إلى مكان قرار الأرض . وقال بعضهم : قوله : ( اهبط ) أي انزل ، وأقم على المقام ، وامكث في المكان ، ليس على الهبوط من مكان مرتفع إلى مكان منحدر .

وقوله تعالى : ( اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) السلامة [ هي أن يسلم من ][ في الأصل وم : هو أن يسلم عن ] الشرور والآفات ، و البركة هي نيل كل خير وبر على غير تبعة . ثم هما في التحصيل واحد ؛ لأنه إذا سلم [ المرء من ][ في الأصل وم : عن ] كل شر وآفة نال كل خير وبر ، وإذا نال كل خير سلم من[ في الأصل وم : عن ] كل شر . هما في الحقيقة واحد ، لكنهما في العبارة [ مختلفان ، وهما ][ في الأصل وم : مختلف ، وهو ] كالبر والتقوى من العبد : البر هو كسب كل خير ، والتقوى هو اتقاء كل شر ومعصية ، هما في العبارة مختلفان ، وفي الحقيقة واحد ؛ لأنه إذا اتقى كل شر عمل كل خير وبر ، وإذا كسب كل خير وبر اتقى كل معصية وشر .

وعلى ذلك يخرج الشكر والصبر ؛ [ فالصبر ][ في م : الصبر ، ساقطة من الأصل ] هو كف النفس عن كل مأثم ، /241-أ/ والشكر هو استعمال النفس في كل طاعة . هما أيضا في العبارة مختلفان ، وفي الحقيقة واحد لأنه إذا كف نفسه عن كل مأثم ، واستعملها في الطاعة كفها عن كل مأثم ومعصية .

وعلى ذلك يخرج الإسلام والإيمان : الإسلام [ هو تسليم ][ في الأصل : هو التسليم ، في م : تسليم ] النفس لله خالصة سالمة ، لا تجعل لغيره فيها حقا ، والإيمان هو أن يصدق الله بالربوبية في نفسه وفي كل شيء ، وهما في الحقيقة واحد ، وفي العبارة مختلفان ؛ لأنه إذا جعل نفسه وكل شيء سالما لله أقر بالربوبية في نفسه وفي كل شيء ، وإذا صدقه ، وأقر له بالربوبية في نفسه ، [ وجعل نفسه وكل شيء لله فقد آمن ][ في الأصل وم : وكل شيء جعلها لله وكل شيء له ] . هذه الأشياء في العبارة مختلفة وفي التحصيل واحد .

ثم قوله تعالى : ( اهبط بسلام منا ) [ يحتمل وجهين :

أحدهما ][ في الأصل وم : و ] : جائز أن يكون جواب قوله ( وإلا تغفر لي وترحمني ) أمنه مما [ في الأصل وم : عما ] خاف ، وطلب منه المغفرة والرحمة .

والثاني : السلام[ في الأصل وم : السلامة ] منه هو الثناء الحسن كقوله ( سلام على نوح في العالمين )[ الصافات : 79 ] .

وقوله تعالى : ( وبركات عليك ) يحتمل أن يكون جواب قوله : ( أنزلني منزلا مباركا )[ المؤمنون : 29 ] والبركة هو اسم كل خير لا انقطاع له ، أو اسم كل شيء لا تبعة له عليه فيه .

ثم قوله : ( بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ) على قول بعض أهل التأويل : ذلك السلام[ في الأصل وم : الإسلام ] لما سلموا من الغرق ، والبركات ما نالوا في الدنيا من الخيرات والمنافع .

وعلى قول بعضهم : السلام والبركات جميعا في الآخرة .

ثم جعل عز وجل المؤمن والكافر مشتركين في منافع الدنيا وبركاتها ، وجعل منافع الآخرة وبركاتها للمؤمنين خاصة بقوله : ( العاقبة للمتقين )[ الأعراف : 128 وهود : 49 والقصص : 83 ] وبقوله : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل[ أدرج قبلها في الأصل وم : ثم قال ] هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة )[ الأعراف : 32 ] أشرك المؤمن والكافر في زينة الدنيا ، ثم جعلها للمؤمنين خالصة يوم القيامة .

فذلك قوله : ( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أخبر أنه يمتعهم ، ثم يصيبهم عذاب أليم ، ويمتع المؤمن أيضا في هذه الدنيا بأنواع المنافع .

ثم أخبر أن ( العاقبة للمتقين ) ثم جعل العاقبة بإزاء ما جعل لهم عذابا أليما ؛ أعني الكفرة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وعلى أمم ممن معك ) ولم يكن مع نوح أمم يومئذ ، إنما كان[ في الأصل وم : كانوا ] معه نفر ، ولكنه أراد ، والله أعلم ، الأمم التي كانوا من بعده . كأنه قال : وعلى أمم يكونون من بعدك .

فهذا يدل أن دين الأنبياء والرسل عليهم السلام [ دين واحد ][ في الأصل وم : عما ] وإن اختلف شرائعهم لأن تلك الأمم لم يكونوا بأنفسهم مع نوح ، ولا كانوا معه في العبادات التي كان فيها نوح . دل أنهم كانوا جميعا على دينه ، وهو واحد ، وعلى ذلك يخرج دعاؤه ( رب اغفر لي ولوالدي )الآية[ نوح : 28 ] دعاه بالمغفرة له ولكل مؤمن ومؤمنة ، يكون من بعده ، وكذلك يلحق كل[ أدرج قبلها في الأصل وم : على ] كافر دعاؤه ( ولا تزد الظالمين إلا تبارا )[ نوح : 28 ] .