اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٞ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ} (48)

قوله : { قِيلَ يا نوح } الخلافُ المتقدم في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } [ البقرة : 13 و 91 ] وشبهه عائدٌ هنا ، أي : في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل .

قوله : " بِسَلاَمٍ " حالٌ من فاعل " اهْبِطْ " أي : مُلْتَبساً بسلامٍ . و " مِنا " صفةٌ ل : " سَلام " فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس " سلام " ، وابتداءُ الغاية مجازٌ ، وكذلك " عَلَيْكَ " يجوز أن يكون صفة ل " بَركات " أو متعلقاً بها .

ومعنى " اهْبِطْ " انزل من السفينة ، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً ، ثم بالبركةِ ثانياً .

والبركة : ثبوت الخير ومنه بروك البعير ، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها ، ومنه { تَبَارَكَ الله } [ الأعراف : 54 ] أي : ثبت تعظيمه وقيل : البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة ، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال : { وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } قيل : المرادُ الذين معه ، وذرياتهم ، وقيل : ذريَّة من معهُ .

قوله { مِّمَّن مَّعَكَ } يجوز في " مَنْ " أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس ، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة ؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ .

وقُرِىء " اهْبُط " بضمِّ الباءِ ، وقد تقدَّم أول البقرة ، وقرأ{[18834]} الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - " وبركة " بالتوحيد .

قوله : " وأمم " يجوزُ أن يكون مبتدأ ، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " خبره ، وفي مسوغ الابتداء وجهان :

أحدهما : الوصفُ التقديري ، إذ التقديرُ : وأممٌ منهم ، أي : ممَّن معك كقولهم : " السَّمْن منوان بدرهم " ف " مَنَوان " مبتدأٌ وصفَ ب " منه " تقديراً .

والثاني : أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو : " النَّاسُ رجلان : رجلٌ أهَنْتُ ، وآخرُ أكْرَمْتُ " ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]

إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ *** بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ{[18835]}

ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في " اهْبِطْ " وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل ، قاله أبو البقاء . قال أبو حيَّان : وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان ، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين ؛ لقوله : { وَمَنْ آمَنَ } ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين ، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ ، وأخبر عنهم بالحال التي يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ . وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ ، في قوله { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] لأمرٍ صناعي ، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " على هذا صفةٌ ل " أمم " ، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ : كما تقولُ : كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس " ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق .

واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ .


[18834]:ينظر: البحر المحيط 5/231، والدر المصون 4/105.
[18835]:تقدم.