محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٞ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ} (48)

ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح ، بعد أن أرست السفينة على الجودي ، بقوله :

/ [ 48 ] ] قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم 48 } .

{ قيل يا نوح اهبط } أي انزل من السفينة { بسلام منا } أي سلامة { وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } أي في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان { وأمم } أي ومنهم أمم { سنمتعهم } أي في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها { ثم يمسهم منا عذاب أليم } أي في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما .

لطيفة :

ذهب العلماء ، في الطوفان ، مذاهب شتى . فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها ، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر ، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم . ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه :

قال تقي الدين المقريزيّ في ( الخطط ) : إن جميع أهل الشرائع ، أتباع الأنبياء ، من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا هو الأب الثاني للبشر ، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه ، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم ، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح ، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك ، فأنكروا الطوفان . وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط ، وأن أولاد ( كيومرت ) الذي هو عندهم ( الإنسان الأول ) ، كانوا بالبلاد الشرقية من بابل ، فلم يصل الطوفان إليهم ، ولا إلى الهند والصين . والحق ما عليه أهل الشرائع ، وأن نوحا عليه السلام ، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة ، نزل بهم ، وهم ثمانون رجلا سوى أولاده ، فماتوا بعد ذلك ، ولم يعقبوا ، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة . ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح{[4855]} : { وجعلنا ذريته هم الباقين } اه .

/ ونحوه في ( الكامل ) لابن الأثير .

وقال ابن خلدون : اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ، ذهب بعمران الأرض أجمع ، بما كان من خراب المعمور ، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ، ولم يعقبوا ، فصار أهل الأرض كلهم من نسله ، وعاد أبا ثانيا للخليقة انتهى .

قال بعضهم ( في تقرير عموم الطوفان ، مبرهنا عليه ) إن مياه الطوفان قد تركت آثارا عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة ، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف ، حتى في قمم الجبال ، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية ، بعضها ظاهر على سطحها ، وبعضها مدفون على مقربة منه . واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع ، بعيد الائتلاف معها بقايا آلات صناعية ، وآثار بشرية ، مما يثبت أن طوفانا قادها إلى ذاك المكان ، وجمعها قسرا فأبادها ، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت ، وظلت شهادة على ما كان ، بأمر الخالق تعالى انتهى .

وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان ، وعموم رسالة نوح ، فأجاب بما صورته :

أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان ، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام ، وما ورد من الأحاديث ، على فرض صحة سنده ، فهو آحاد لا يوجب اليقين والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن ، إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين وأما المؤرخ ، ومريد الاطلاع ، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ ، أو صاحب الرأي . وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية ، أو عدم الثقة بها ، ولا يتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني . أما مسألة عموم الطوفان في نفسها ، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان ، وأهل النظر في طبقات الأرض .

وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم : فأهل الكتاب ، وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان / عامّا لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ، لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عمّ الأرض ، ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامّا ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها . غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامّا ، لمجرد حكايات عن أهل الصين ، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز . بل على كل من يعتقد بالدين ، ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها ، وينصرف عنها إلى التأويل ، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد ، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل ، وعناء شديد ، وعلم غزير في طبقات الأرض ، وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى نقلية وعقلية . ومن هدى برأيه بدون علم يقيني ، فهو مجازف ، ولا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عامّا ، إذ لم يكن العمران قائما إلا بقوم نوح ، فكان عاما لهم ، وإن كان من جهة خاص بهم ، إذ ليس ثم غيرهم ، قال :

هبط آدم إلى الأرض ، وهو ليس بأمة إذا مضت عليها قرون ولدت أمما ، بل هو واحد تمضي عليه السنون ، بل القرون ، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلا قليلا . من آدم إلى نوح ثمانية آباء ، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافا وآلافا ، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام ، وينشروا العمران في تلك الأيام ، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين ؟ أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك ، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان ، من المكان الخاص الذي سبق به البيان ، فلا برهان . وإن كانت في غير ذلك المكان ، فإن لم يكن وضعها إنسان ، كما وجدها إنسان كان نقل الجوارح / والكواسر لتلك العظام ، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان . بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام ، تعلم أن الطوفان خاص عام : خاص بمكان ، عام سائر المكان - والله أعلم{[4856]} .


[4855]:[37 / الصافات / 77].
[4856]:ترك المؤلف رحمه الله بعد هذا البحث فراغا قدره ثلاث صفحات وثلث الصفحة، مما يدل على أنه كان يريد توسعا في دراسته، وتعمقا في تحقيقه.