التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (36)

إعادة النداء في قوله : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } لإنشاء التحسر على ذلك .

وجملة { إنهن أضللن كثيراً من الناس } تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس ، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها ، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف ( إنّ ) في هذا المقام من معنى التعليل .

وذلك أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أُور الكلدانيين إنكاراً على عبدة الأصنام ، فقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ سورة الصافات : 99 ] وقال لقومه : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ سورة مريم : 48 ] . فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام ، ثم جاء عَرَبَةَ تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جُرْهمَ قوماً على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام . ثم أقام هنالك مَعلَم التوحيد . وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل ، وأراد أن يكون مأوى التوحيد ، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد . فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلداً آمناً حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد .

ففرع على ذلك قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني ، فدخل في ذلك أبوه وقومه ، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل .

و ( من ) في قوله : { مِني } اتصالية . وأصلها التبعيض المجازي ، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله .

وقوله : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه . والمعنى ومن عصاني أفوّض أمره إلى رحمتك وغفرانك . وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى . وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام وخشية من استئصال عصاة ذريته . ولذلك متعهم الله قليلاً في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى : { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [ سورة البقرة : 126 ] وقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين } [ سورة الزخرف : 27 ] . وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم عليه السلام .

وإذ كان قوله : { فإنك غفور رحيم } تفويضاً لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به .