التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

جملة { قَالَ ربّ إنِّي وهَنَ العَظمُ مِني } مبنية لجملة { نادى ربه } [ مريم : 3 ] . وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله : { فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ ولِيّاً } . وإنّما كان ذلك تمهيداً لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد . والله يجيب المضطر إذا دعاه ، فليس سؤاله الولدَ سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر .

ووصَف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالاً ومئالاً ، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالاً مقتضياً للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة ، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت . والخبران من قوله : { وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً } مستعملان مجازاً في لازم الإخبار ، وهو الاسترحام لحاله . لأن المخبَر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران .

والوهن : الضعف . وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأنّ العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلغه الوهن إلاّ وقد بلغ ما فوقه .

والتعريف في ( العظَمُ ) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه .

وشبّه عموم الشّيب شعرَ رأسه أو غلَبَته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم أسود ، تشبيهاً مركباً تمثيلياً قابلاً لاعتبار التفريق في التشبيه ، وهو أبدع أنواع المركب . فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل { اشتَعَل } .

وأسند الاشتعال إلى الرأس ، وهو مكان الشعر الذي عمّه الشيب ، لأنّ الرأس لا يعمه الشيب إلاّ بعد أن يعمّ اللّحية غالباً ، فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن .

وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي ، لأنّ الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب ، فلما جيء باسم الشيب تمييزاً لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته ، وخصوصية التفصيل بعد الإجمال ، مع إفادة تنكير { شَيباً } من التعظيم فحصل إيجاز بديع . وأصل النظم المعتاد : واشتعل الشيب في شعر الرأس .

ولِما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبنى المعاني والبيان كان لها أعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب « الكشاف » ووضحه صاحب « المفتاح » فانظُرهما .

وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله :

واشتعل المُبيضّ في مُسوده *** مثلَ اشتعال النّار في جزل الغضا

ولكنّه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل : « ماء ولا كصدّى » .

والشيب : بياض الشعر . ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر ، ونقصانها بسبب كبر السن غالباً ، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر ، وقد يبيضّ الشعر مِنْ مرض .

وجملة { لم أكن بدعائك رب شقياً } معترضة بين الجمل التمهيدية ، والباء في قوله : { بدعائك } للمصاحبة .

والشقيّ : الذي أصابته الشقوة ، وهي ضد السعادة ، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السّعي . وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفاً .

ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجرى المثل في حصول السعادة من شيء . ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم : { عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً } [ مريم : 48 ] أي عسى أن أكون سعيداً . أي مستجاب الدعوة . وفي حديث أبي هُريرة عن النبيء صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه في شأن الذين يذكرون الله ومن جالسهم « هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم » أي يسعد معهم . وقال بعض الشعراء ، لم نعرف اسمه وهو إسلامي :

وكنت جليسَ قعقاع بن شَوْر *** ولا يشقَى بقعقاع جليس

أي يسعد به جليسُه .

والمعنى : لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود الدعوة منك ، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه .

وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل هو بطريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه ، وتوسلٌ إليه بما سلف له معه من الاستجابة .

روي أن محتاجاً سأل حاتماً الطائي أو مَعْنَ بن زائدةَ قائلاً : « أنا الذي أحسنت إليّ يوم كذا » فقال : « مرحباً بمن تَوسل بنا إلينا » .