فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

{ قال ربي إني وهن العظم مني } هذه الجملة مفسرة لقوله نادى ربه .

فالنداء أوله قوله هذا وآخره قوله الآتي { واجعله ربي رضيا } فجملة النداء ثمان جمل والدعاء منه هو قوله { فهب لي من لدنك وليا } كما سيأتي ، والوهن الضعف ، يقال وهن يهن وهنا ، من باب وعد إذا ضعف فهو واهن في الأمر والعمل والبدن ، ووهنته أضعفته ، يتعدى ؛ ولا يتعدى في لغة فهو موهون البدن والعظم ، والأجود أنه يتعدى بالهمزة ، فيقال أوهنته ، والوهن بفتحتين لغة في المصدر ، ووهن يهن بالكسر فيهما لغة ، وقرئ بالحركات الثلاث ، أراد أن عظامه فترت ورقت ؛ وعفت قوته من الكبر .

وذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه ، وهو أصل بنائه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ، ولأنه أشد ما في الإنسان وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن . ووحد العظم قصدا إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام ، وقيل اشتكى سقوط الأضراس .

{ واشتعل الرأس شيبا } الاشتعال في الأصل انتشار شعاع النار ، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية بأن حذف المشبه به ، وأداة التشبيه ، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها . قال الزجاج : يقال للشيب إذا كثر جدا . قد اشتعل رأس فلان .

{ ولم أكن بدعائك } أي بدعائي إياك { رب شقيا } يقال شقي بكذا أي تعب فيه ، ولم يحصل مقصوده منه ، فالمعنى لم أكن خائفا في وقت من الأوقات ، بل كلما دعوتك استجبت لي ، وهذا توسل بما سلف له من الاستجابة ، وتنبيه على أن المطلوب- وإن لم يكن معتادا- فإجابته لدعائه معتادة ، وقد عوده سبحانه بالإجابة وأطعمه ، ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطعمه .

قال العلماء : يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع . وذكر نعم الله عليه . كما فعل زكريا هاهنا . فإن قوله الماضي غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن سرد مطالبه وبلوغ مآربه ، وفي هذا ذكر ما عوده الله والإنعام عليه بإجابة أدعيته ، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع .