غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

1

ثم شرع في حكاية ندائه قائلاً : { قال رب إني وهن العظم مني } إلى قوله : { واجعله رب رضياً } قال علماء المعاني : في الآية لطائف وذلك أصل الكلام : يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي ، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه ، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني ، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار : إني وهنت العظام من بدني ، لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاماً واهنة عندك ، فإذا قلت : " من بدني " فقد فصلت ، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام ، ثم لطلب شمول العظام فرداً فرداً قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل { إني وهن العظم مني } فحصل أني وهنت العظام مني . وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى . وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي . وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب الرأسي ، ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل { اشتعل } بدل " انتشر " فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب ، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي " اشتعل رأسي شيباً " .

وكونها أبلغ من وجهات منها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت : " اشتعل بيتي ناراً " مكان " اشتعل النار في بيتي " . ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز ، ومنها تنكير { شيباً } للتعظيم كما هو حق التمييز . ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي " اشتعل الرأس مني شيباً " لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو { وهن العظم مني } ثم ترك لفظ " مني " ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ . وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال " رب " بحذف حرف النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره . وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني . ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلاً { ولم أكن بدعائك رب شقياً } كما حكى أن محتاجاً قال لكريم : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل إلينا وقضى حاجته . تقول العرب : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها ، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها . ومعنى { بدعائك } أي بدعائي إياك . واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة : الأول كونه ضعيفاً ، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين وذلك قوله : { وإني خفت الموالي } .

/خ15