إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

{ قَالَ } جملةٌ مفسِّرةٌ لنادى لا محلَّ لها من الإعراب { رَبّ إني وَهَنَ العظم مِنّى } إسنادُ الوهن إلى العظم لِما أنه عمادُ البدن ودِعامُ الجسد فإذا أصابه الضَّعفُ والرخاوة أصاب كلَّه ، أو لأنه أشدُّ أجزائه صلابةً وقِواماً وأقلُّها تأثراً من العلل فإذا وهَن كان ما وراءه أوهنَ ، وإفرادُه للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهْنِ لكل فردٍ من أفراده ، ومنّي متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من العظم ، وقرئ وهِن بكسر الهاء وبضمها أيضاً ، وتأكيدُ الجملة لإبراز كمال الاعتناءِ بتحقيق مضمونها { واشتعل الرأس شَيْباً } شبّه عليه الصلاة والسلام الشيبَ في البياض والإنارة بشُواظ النار ، وانتشارَه في الشعر وفُشوَّه فيه وأخذَه منه كلَّ مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مُخرجَ الاستعارةِ ثم أَسند الاشتعالَ إلى محل الشعرِ ومنبِتِه ، وأخرجه مُخرج التمييز وأطلق الرأسَ اكتفاءً بما قيّد به العظمَ ، وفيه من فنون البلاغة وكمالِ الجزالةِ ما لا يخفى ، حيث كان الأصلُ اشتعل شيبُ رأسي فأسند الاشتعالَ إلى الرأس كما ذُكر لإفادة شمولِه لكلها ، فإن وِزانَه بالنسبة إلى الأصل وزانُ اشتعل بيتُه ناراً بالنسبة إلى اشتعل النارُ في بيته ، ولزيادة تقريرِه بالإجمال أولاً والتفصيلِ ثانياً ولمزيد تفخيمِه بالتنكير ، وقرئ بإدغام السينِ في الشين { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً } أي ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمُر الطويلِ ، بل كلما دعوتُك استجبتَ لي ، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها أو حالٌ من ضمير المتكلم إذِ المعنى واشتعل الرأسُ شيباً ، وهذا توسلٌ منه عليه السلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال ، فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد يُخيّبه أبداً لاسيما عند اضطرارِه وشدة افتقارِه ، والتعرضُ في الموضوعين لوصف الربوبيةِ المنْبئة عن إضافة ما فيه صلاحُ المربوبِ ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لاسيما توسيطُه بين كان وخبرها لتحريك سلسلةِ الإجابةِ بالمبالغة في التضرّع ، ولذلك قيل : إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤُه فليدعُ الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه .