اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

قوله : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } الآية .

قوله : { قَالَ رَبِّ } : لا محلَّ لهذه الجملةِ ؛ لأنها تفسير لقوله { نَادَى ربَّهُ } وبيانٌ ، ولذلك ترك العاطف بينهما ؛ لشدَّة الوصل .

قوله : { وهَنَ } العامَّةُ على فتحِ الهاء ، وقرأ{[21389]} الأعمشُ بكسرها ، وقُرئ بضمِّها ، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظة ، ووحَّد العظم لإرادة الجنس ؛ يعني : أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عمودُ البدنِ ، وأشدُّ ما فيه ، وأصلبه ، قد أصابه الوهنُ ، ولو جمع ، لكان قصداً آخر : وهو أنه لم يهن منه بعضُ عظامه ، ولكن كلُّها ، قاله الزمخشريُّ ، وقيل : أطلقَ المفردُ ، والمرادُ به الجمعُ ؛ كقوله : [ الطويل ]

بِهَا جِيفَ الحَسْرَى فأمَّا عِظَامُهَا *** فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ{[21390]}

أي : جلودُها ، ومثله : [ الوافر ]

كُلُوا في بعضِ بَطْنكمُ تَعِفُّوا *** فإنَّ زمانَكُم زمنٌ خَمِيصُ{[21391]}

أي : بُطُونكُمْ .

و " مِنِّي " حالٌ من " العَظْم " وفيه ردٌّ على من يقول : إنَّ الألف واللام تكونُ عوضاً من الضمير المضافِ إليه ؛ لأنه قد جمع بينهما هنا ، وإن كان الأصل : وهن عظمي ، ومثله في الدَّلالةِ على ذلك ما " أنشد شاهداً على ما ذكرتُ : [ الطويل ]

رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفيقةٌ *** بجَسِّ النَّدامَى بضَّةُ المُتَجَرِّدِ{[21392]}

ومعنى { وَهَنَ العظم مِنِّي } : ضعف ، ورقَّ العظم من الكبر .

فصل

قال قتادة{[21393]} : اشتكى سُقُوط الأضراس .

قوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } أي : ابْيَضَّ شعر الرَّأس شيباً .

وفي نصب " شَيْباً " ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها -وهو المشهور- : أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ؛ إذ الأصل : اشتعل شيبُ الرَّأسِ ، قال الزمخشريُّ : " شبَّه الشَّيب بشُواظِ النَّار في بياضهِ ، وانتشاره في الشَّعْر ، وفُشُوِّه فيه ، وأخذه منه كُلُّ مأخذٍ باشتعالِ النَّار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارةِ ، ثم أسند الاشتعال إلى مكانِ الشِّعْر ، ومنبته ، وهو الرَّأسُ ، وأخرج الشَّيب مُمَيَّزاً ، ولم يُضفِ الرأس ؛ اكتفاء بعلم المخاطب : أنه رأس زكريا ، فمن ثم ، فصُحَتْ هذه الجملة ، وشُهد لها بالبلاغة " انتهى ، وهذا من استعارة محسوس لمحسوس ، ووجه الجمع : الانبساط والانتشار .

والثاني : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ ، فإنَّ " اشْتَعَلَ الرَّأسُ " معناه " شَابَ " .

الثالث : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ ، شاَئِباً ، أو ذا شيب .

وأدغم السِّين في الشِّين أبو عمرٍ .

وقوله : { بِدُعائِكَ } فيه وجهان :

أحدهما : أنَّ المصدر مضافٌ لمفعوله ، أي : بُدعائي إيَّاك .

والمعنى : عوَّدتني الإجابة فيما مضى ، ولم تُخَيِّبْنِي .

والثاني : أنه مضافٌ لفاعله ، أي : لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيَّا ، أي : لما دعوتني إلى الإيمان ، آمنتُ ، ولم أشق .


[21389]:ينظر في قراءتها: الشواذ 83، البحر المحيط 6/163 والدر المصون 4/490.
[21390]:تقدم.
[21391]:تقدم.
[21392]:تقدم.
[21393]:ينظر: معالم التنزيل 3/188.