الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

قوله : { قَالَ رَبِّ } : لا مَحَلَّ لهذهِ الجملةِ لأنها تفسيرٌ لقولِه " نادى ربَّه " وبيانٌ ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ بينهما لشدَّة الوَصْلِ .

قوله : " وَهَنَ " العامَّةُ على فتحِ الهاء . وقرأ الأعمشُ بكسرِها . وقُرِئ بضمِّها ، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ . ووَحَّد العظمَ لإِرادةِ الجنسِ ، يعني أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عَمُوْدُ البدنِ ، وأشدُّ ما فيه وأَصْلَبُه ، قد أصابه الوَهْنُ ، ولو جُمع لكان قصداً أخرَ : وهو أنه لم يَهِنْ منه بعضُ عظامه ولكن كلُّها ، قاله الزمخشري : وقيل : أُطْلِقَ المفردُ ، والمرادُ به الجمعُ كقولِه :

بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها *** فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ

أي : جلودُها ، ومثلُه :

كُلوا في بعضِ بطنِكُم تَعِفُّوا *** فإنَّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ

أي : بطونكم .

و " مَنَّي " حالٌ من " العَظْمِ " . وفيه رَدُّ على مَنْ يقول : إن الألفَ واللامَ تكونُ عِوَضاً من الضميرِ المضافِ إليه ؛ لأنه قد جُمع بينهما هنا وإن كان الأصلُ : وَهَنَ عَظْمِي . ومثلُه في الدَّلالةِ على ذلك ما أنشدوه شاهداً على ما ذَكَرْتُ :

رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفْيقَةٌ *** بجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ

قوله : " شَيْباً " في نصبه ثلاثةُ اوجهٍ ، احدُها : - وهو المشهورُ- أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ؛ إذ الأصلُ : اشتعلَ شيبُ الرأسِ . قال الزمخشري : " شبَّه الشيبَ بشُواظِ في بياضِه وانتشارِه في الشعر وفُشُوِّه فيه ، وأَخْذِه منه كلَّ مَأْخَذٍ باشتعال النار ، ثم أخرجه مُخْرَجَ الاستعارةِ ، ثم أَسْنَدَ الاشتعالَ إلى مكانِ الشِّعْر ومَنْبَتِه وهو الرأسُ ، وأخرج الشَّيْبَ مميَِزاً ، ولم يُضِفِ الرأسَ اكتفاءً بعِلْم المخاطب أنه رأسُ زكريا ، فمِنْ ثَمَّ / فَصُحَتْ هذه الجملةُ وشُهِد لها بالبلاغةِ " . انتهى . وهذا مِنْ استعارةِ محسوسٍ لمحسوسٍ ، ووجهُ الجمع : الانبساطُ والانتشارُ .

والثاني : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ ، فإنَّ معنى " اشتعلَ الرأسُ " شابَ .

الثالث : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، اي : شائباً أو ذا شيبٍ .

قوله : " بدُعائِك " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّ المصدرَ مضافٌ لمفعولِه ، أي : بدعائي إياك . والثاني : أنه مضافُ لفاعلِه ، أي : لم أكنْ بدعائِك لي إلى الإِيمانِ شَقِيَّا .