محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

ثم فسر الدعاء بقوله :

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ( 4 ) } .

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي ضعف . قال الزمخشري : وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن . وبه قوامه ، وهو أصل بنائه . فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته . ولأنه أشد ما فيه وأصلبه . فإذا وهن كان ما وراءه أوهن . ووحده . لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده . وقرئ { وهن } بكسر الهاء وضمها { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } قال الزمخشري : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه ، وأخذ منه كل مأخذ – باشتعال النار . ثم أخرجه مخرج الاستعارة . ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس . وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا . فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة . وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين : أولاهما تصريحية تبعية في { اشتعل } بتشبيه انتشار المبيض في المسود باشتعال النار ، كما قال ابن دريد في ( مقصورته ) :

إما ترى رأسي حاكى لونه *** طرة صبح تحت أذيال الدجا

واشتعل المبيض في مسوده *** مثل اشتعال النار في جزل الغضا

والثاني مكنية : بتشبيه الشيب ، في بياضه ، وإنارته ، باللهب . وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية ، وعليه المحققون من أهل المعاني . وقيل : إن الاستعارة هنا تمثيلية . فشبه حال الشيب بحال النار ، في بياضه وانتشاره : { وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } ، أي ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت لم أعود منك إلا الإجابة في الدعاء ، ولم تردني قط . وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة ، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة ، من كبر السن وضعف الحال . فإنه تعالى بعد ما عود عبده بالإجابة دهرا طويلا ، لا يكاد يخيبه أبدا . لاسيما عند اضطراره وشدة افتقاره .

تنبيه :

استفيد من هذه الآيات آداب الدعاء وما يستحب فيه . فمنها الإسرار بالدعاء ، لقوله { خَفِيًّا } ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله : { وَلَمْ أَكُن } الخ كما قدمنا .