التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِيزَانَۗ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٞ} (17)

قد علمتم أن من جملة محاجة المشركين في الله ومِن أشدِّها تشغيباً في زعمهم محاجتهم بإنكار البعث كما في قولهم : { هل ندلكم على رجلٍ يُنبِّئكم إذا مُزِّقتم كلَّ مُمَزَّقٍ إِنكم لفي خَلققٍ جديدٍ أفترى على الله كذباً أم به جنّة } [ سبأ : 7 ، 8 ] ، وقال شداد بن الأسود :

يُخبِّرُنا الرّسولُ بأنْ سَنَحْيَا *** وكيفَ حياةُ أصداءٍ وهامِ

وقد دحض الله حجتهم في مواضع من كتابه بنفي استحالته ، وبدليل إمكانه ، وأومأ هنا إلى مقتضي إيجابه ، فبيّن أن البعث والجزاء حق وعدل فكيف لا يقدِّره مدبّر الكون ومنزّل الكتاب والميزان . وقد أشارت إلى هذا المعنى آيات كثيرة منها قوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجَعون } [ المؤمنون : 115 ] وقوله : { إن الساعة آتيةٌ أكادُ أُخفيها لتُجْزَى كلُّ نفس بما تَسعى } [ طه : 15 ] وقال : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحقّ ولكن أكثرَهم لا يعلمون إنَّ يوم الفصل ميقاتُهم أجمعين } [ الدخان : 38 40 ] .

وأكثرُها جاء نظمها على نحو الترتيب الذي في نظم هذه الآية من الابتداء بما يذكِّر بحكمة الإيجاد وأن تمام الحكمة بالجزاء على الأعمال .

فقوله : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } تمهيد لقوله : { وما يدريك لعل الساعة قريب } ، لأن قوله : { وما يدريك لعل الساعة قريب } يؤذن بمقدر يقتضيه المعنى ، تقديره : فجُعل الجزاء للسائرين على الحق والناكبين عنه في يوم السّاعة فلا محيص للعباد عن لقاء الجزاء وما يدريك لعل الساعة قريب ، فهو ناظر إلى قوله { إن الساعة آتية أكاد أُخْفِيها لتُجزَى كلَّ نفسٍ بما تسعى } [ طه : 15 ] . وهذه الجملة موقعها من جملة { والذين يحاجون في الله } [ الشورى : 16 ] موقع الدّليل ، والدليلُ من ضروب البيان ، ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها لشدة اتصال معناها بمعنى الأخرى .

والإخبار عن اسم الجلالة باسم الموصول الذي مضمون صلته إنزالُه الكتابَ والميزانَ ، لأجل ما في الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي ، وأنه من جنس الحق والعدل ، مثل الموصول في قوله تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين } [ غافر : 60 ] .

ولام التعريف في { الكتاب } لتعريف الجنس ، أي إنزال الكُتب وهو ينظر إلى قوله آنفاً : { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } [ الشورى : 15 ] .

والباء في { بالحق } للملابسة ، أي أنزل الكتب مقترنة بالحق بعيدة عن الباطل .

والحق : كلّ ما يَحق ، أي يجب في باب الصلاح عملُه ويصح أن يفسر بالأغراض الصحيحة النافعة .

و { الميزان } حقيقته : آلة الوزن ، والوزن : تَقديرُ ثِقَللِ جسم ، والميزان آلة ذات كفتين معتدلتين معلقتين في طرفي قضيب مستوٍ معتدل ، له عروة في وسطه ، بحيث لا تتدلى إحدى الكفتين على الأخرى إذا أُمسك القضيب من عُروته . والميزان هنا مستعار للعدل والهدْي بقرينة قوله { أنزل } فإن الدّين هو المنزل والدّين يدعو إلى العدل والإنصاف في المجادلة في الدّين وفي إعطاء الحقوق ، فشبه بالميزان في تساوي رجحان كفتيه قال تعالى : { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ النّاس بالقسط } [ الحديد : 25 ] .

وجملة { وما يدريك لعل الساعة قريب } معطوفة على جملة { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } ، والمناسبة هي ما ذكرناه من إيذان تلك الجملة بمقدَّر .

وكلمة { وما يدريك } جارية مجرى المثل ، والكاف منها خطاب لغير معيّن بمعنى : قد تدري ، أي قد يدري الداري ، ف { ما } استفهامية والاستفهام مستعمل في التنبيه والتهيئة . و { يدريك } من الدراية بمعنى العلم . وقد عُلّق فعل ( يُدري ) عن العمل بحرف الترجّي . وعن ابن عباس كل ما جاء فعل ( ما أدراك ) فقد أعلمه الله به أي بينه له عقب كلمة ( ما أدراك ) نحو { وما أدراك ماهِيَهْ نارٌ حاميةٌ } [ القارعة : 10 ، 11 ] وكل ما جاء فيه { وما يدريك } لم يُعلمه به أي لم يعقبه بما يبين إبْهامه نحو { وما يدريك لعل الساعة قريب وما يدريك لعله يزّكى } [ عبس : 3 ] . ولعل معنى هذا الكلام أن الاستعمال خص كل صيغة من هاتين الصيغتين بهذا الاستعمال فتأمل .

والمعنى : أي شيء يعلمك أيها السامع الساعةَ قريباً ، أي مقتضي علمِك متوفر ، فالخطاب لغير معين ، وفي معناه قوله تعالى : { وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } في سورة الأنعام ( 109 ) .

والإخبار عن الساعة } ب { قريب } وهو غير مؤنث لأنه غلب لزوم كلمة قريب وبعيد للتذكير باعتبار شيء كقوله تعالى : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب : 63 ] وقوله : { إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين } وقد تقدم في سورة الأعراف ( 56 ) .