نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِيزَانَۗ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٞ} (17)

ولما جزم سبحانه بما توعدهم به بعد أن حكم على حجتهم بالدحوض ، وكان لا يجزم بالشيء إلا من كان نافذ الأمر محيط الحكم ، نبه على أنه كذلك ، مبيناً ما به يعرف ثبات الحجج ودحوضها المستلزم للغضب من الله المستعقب للعذاب ، بقوله لافتاً القول إلى الاسم الأعظم تنبيهاً على عظمة المخبر عنه : { الله } أي الذي له جميع الملك { الذي } وأشار بالتعبير بالإنزال إلى أن المراد جملة الكتاب الذي لا مطعن في شيء منه فقال : { أنزل الكتاب } أي أوجد إنزاله هو لا غيره { بالحق } أي متلبساً على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل وبسبب العمل الحق العام للأقوال والأفعال والعقائد لتعرف الحجج الثابتة من غيرها .

ولما كان الكتاب آمراً بالعدل قالاً وحالاً ، وكان من محسوسات أوامره التقدير بالمقادير الضابطة ، قال مخصصاً معبراً بأقومها إشارة إلى أن الكتاب أعدل عدالة عند العقل وأبين من الميزان للحس : { والميزان } أي الأمر به مريداً به عينه حقيقة وجميعها بل جميع العدل الذي تقدم في " لا عدل بينكم " مجازاً . ولما ثبت أن من جادل فيه كانت حجته داحضة إذا حوسب في الساعة فكان معذباً ، وكان التقدير بما هدى إليه السياق تسلية له صلى الله عليه وسلم فيما يقاسي في إنفاذ ما أمر به من العدل في جميع أقواله وأفعاله وصبره على أذاهم : فمن فزع إلى الكتاب في المعاني وإلى الميزان في الأعيان فبنى أمره على تحقق العدل فيهما بهما فاز ، ومن أهمل ذلك خاب ، فدحضت حجته ، وسقطت عند ربه منزلته ، وما يدريك لعل من جار يعاجل في الدنيا بالأخذ لكون أجله الذي سبقت الكلمة بتأخيره إليه قد حضر ، عطف عليه قوله موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق تعظيماً للأمر : { وما يدريك } يا أكمل الخلق { لعل الساعة } التي أشير إليها في هذه الآية بقوله { عند ربهم } بعد أن صرح بها في غير آية . ولما كان تأنيث الساعة غير حقيقي لأنها بمعنى الوقت ، ذكرها فقال : { قريب * } فأفهم ذلك أنها ذات الشدائد وأن شدائدها ذكور الشدائد وأن قربها أسرع من لمع البرق لما له من الثبات في الحق ، أو ذكرها على إرادة السبب أي ذات قرب ، أو على حذف مضاف أي مجيئها ، وعلى كل حال فهو دال على تفخيمها أي إنك بمظنة من قرب القيامة ، فيقع بهم ما توعدوا به مما ينبغي الإشفاق منه ، فيظهر فيها العدل بموازين القسط لجميع الأعمال ظهوراً لا يتمارى فيه أحد فيشرف من وفى ، ويخزي من جار وجفا .