التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

سميت { سورة النجم } بغير واو في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه . وقال : يكفني هذا . قال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا . وهذا الرجل أمية بن خلف . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون . فهذه تسمية لأنها ذكر فيها النجم .

وسموها { سورة والنجم } بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أوله وكذلك ترجمها البخاري في التفسير والترمذي في جامعه .

ووقعت في المصاحف بالوجه وهو من تسمية السورة بلفظ وقع في أولها وهو لفظ { النجم } أو حكاية لفظ { والنجم } .

وسموها { والنجم إذا هوى } كما في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : والنجم إذا هوى فلم يسجد } ، أي في زمن آخر غير الوقت الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس . وهذا كله اسم واحد متوسع فيه فلا تعد هذه السورة بين السور ذوات أكثر من اسم .

وهي مكية ، قال ابن عطية : بإجماع المتأولين . وعن ابن عباس وقتادة : استثناء قوله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } الآية قالا : هي آية مدنية . وسنده ضعيف . وقيل : ونسب إلى الحسن البصري : أن السورة كلها مدنية ، وهو شذوذ .

وعن ابن مسعود هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة .

وهي السورة الثالثة والعشرون في عد ترتيب السور . نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس .

وعد الجمهور العادين آيها إحدى وستين ، وعدها أهل الكوفة أثنتين وستين .

قال ابن عطية : سبب نزولها أن المشركين قالوا : إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله ، فنزلت السورة في ذلك .

أغراض هذه السورة

أول أغراضها تحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما نبلغه عن الله تعالى وإنه منزه عما ادعوه .

وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل .

وتقريب صفة نزول جبريل بالوحي في حالين زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة .

وإبطال إلهية أصنام المشركين .

وإبطال قولهم في اللات والعزى ومناة بنات الله وأنها أوهام لا حقائق لها وتنظير قولهم فيها بقولهم في الملائكة أنهم إناث .

وذكر جزاء المعرضين والمهتدين وتحذيرهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة .

وإبطال قياسهم عالم الغيب على عالم الشهادة وأن ذلك ضلال في الرأي قد جاءهم بضده الهدى من الله . وذكر لذلك مثال من قصة الوليدين المغيرة ، أو قصة ابن أبي سرح .

وإثبات البعث والجزاء .

وتذكيرهم بما حل بالأمم ذات الشرك من قبلهم وبمن جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الرسل أهل الشرائع .

وإنذارهم بحادثة تحل بهم قريبا .

وما تخلل ذلك من معترضات ومستطردات لمناسبات ذكرهم عن أن يتركوا أنفسهم .

وأن القرآن حوى كتب الأنبياء السابقين .

كلام موجه من الله تعالى إلى المشركين الطاعنين في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

و { النجم } : الكوكب أي الجرم الذي يبدو للناظرين لامعاً في جو السماء ليلاً .

أقسم الله تعالى بعظيم من مخلوقاته دال على عظيم صفات الله تعالى .

وتعريف { النجم } باللام ، يجوز أن يكون للجنس كقوله : { وبالنجم هم يهتدون } [ النحل : 16 ] وقوله : { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 6 ] ، ويحتمل تعريف العهد . وأشهر النجوم بإطلاق اسم النجم عليه الثريّا لأنهم كانوا يوقتون بأزمان طلوعها مواقيت الفصول ونضج الثمار ، ومن أقوالهم : طلع النَّجم عِشاءَ فابتغى الراعي كمساءَ طَلع النجم غُذَيَّة وابتغى الراعي شُكَية تصغير شَكْوة وعاءٍ من جلد يوضع فيه الماء واللبن } يعنون ابتداء زمن البرد وابتداء زمن الحرّ .

وقيل { النجم } : الشعرى اليمانية وهي العبورُ وكانت معظمة عند العرب وعَبدتْها خُزاعة .

ويجوز أن يكون المراد ب { النجم } : الشهاب ، وبهُويه : سقوطه من مكانه إلى مكان آخر ، قال تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد } [ الصافات : 6 ، 7 ] وقال : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] .

والقَسَم ب { النجم } لما في خَلقه من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى ، ألا ترى إلى قول الله حكاية عن إبراهيم { فلما جَنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي } [ الأنعام : 76 ] .

وتقييد القَسَم بالنجم بوقت غروبه لإِشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أَوْجه في شرف الارتفاع في الأفق على أنه تسخير لقدرة الله تعالى ، ولذلك قال إبراهيم : { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] .

والوجه أن يكون { إذا هوى } بدل اشتمال من النجم ، لأن المرَاد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ومن أعظم أحواله حال هُويِّه ، ويكون { إذا } اسم زمان مجرداً عن معنى الظرفية في محل جر بحرف القسم ، وبذلك نتفادى من إشكال طَلب متعلق { إذَا } وهو إشكال أورده العلامة الجَنْزِي{[396]} على الزمخشري ، قال الطيبي وفي « المقتبس » قال الجَنْزِي : « فاوضتُ جارَ الله في قوله تعالى : { والنجم إذا هوى } ما العامل في { إذا } ؟ فقال : العامل فيه ما تعلّق به الواو ، فقلت : كيف يعمل فعل الحال في المستقبل وهذا لأن معنا أُقسم الآن ، وليس معناه أُقسم بعد{[397]} هذا فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف تقديره : وهُوِيّ النجم إذا هَوَى ، فعرضته على زين المشائخ{[398]} فلم يستحسن قوله الثاني . والوجه أن { إذا } قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ، ونحوه : آتيك إذا احمرّ البسر ، أي وقت احمراره فقد عُرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقعت الغنية عنه بقوله : آتيك اهـ . كلام الطيبي ، فقوله : فالوجه يحتمل أن يكون من كلام زين المشائخ أو من كلام صاحب « المقتبس » أو من كلام الطيبي ، وهو وجيه وهو أصل ما بنينا عليه موقع { إذَا } هنا ، وليس تردد الزمخشري في الجواب إلا لأنه يلتزم أن يكون { إذَا } ظرفاً للمستقبل كما هو مقتضى كلامه في « المفصَّل » مع أن خروجها عن ذلك كثير كما تواطأت عليه أقوال المحققين .

والهُوِيّ : السقوط ، أطلق هنا على غروب الكوكب ، استعير الهُوِيُّ إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهوِيّ : سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء ، فهو هويّ حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه .

وفي ذكر { إذا هوى } احتراس من أن يتوهم المشركون أن في القسم بالنجم إقراراً لعبادة نجم الشعرى ، وأن القسم به اعتراف بأنه إله إذ كان بعض قبائل العرب يعبدونها فإن حالة الغروب المعبر عنها بالهُوِيِّ حالة انخفاض ومغيب في تخيّل الرّائي لأنهم يعُدُّون طلوع النجم أوجاً لشرفه ويعدون غروبه حَضيضاً ، ولذلك قال الله تعالى : { فلما أفل قال لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] .

ومَن مناسبات هذا يجيء قوله : { وأنه هو رب الشعرى } في هذه السورة { 49 } ، وتلك اعتبارات لهم تخيلية شائعة بينهم فمن النافع موعظة الناس بذلك لأنه كاف في إقناعهم وصولاً إلى الحق .

فيكون قوله : { إذا هوى } إشعاراً بأن النجوم كلها مسخرة لقدرة الله مسيّرة في نظام أوْجدها عليه ولا اختيار لها فليست أهلاً لأن تعبد فحصل المقصود من القسم بما فيها من الدلالة على القدرة الإِلهية مع الاحتراس عن اعتقاد عبادتها .

وقال الراغب : قيل أراد بذلك أي ب { النجم } القرآن المنزل المنجم قدراً فقدراً ، ويعني بقوله : { هوى } نزوله اهـ .

ومناسبة القسم ب { النجم إذا هَوَى } ، أن الكلام مسوق لإثباتتِ أن القرآن وحي من الله منزل من السماء فشابَه حالُ نزوله الاعتباريِّ حال النجم في حالة هويِّه مشابهة تمثيلية حاصلة من نزول شيء منيرٍ إنارة معنوية نازل من محل رفعة معنوية ، شبه بحالة نزول نجم من أعلى الأفق إلى أسفله وهو من تمثيل المعقول بالمحسوس ، أو الإِشارة إلى مشابهة حالة نزول جبريل من السماوات بحالة نزول النجم من أعلى مكانه إلى أسفله ، أو بانقضاض الشهاب تشبيه محسوس بمحسوس ، وقد يشبهون سرعة الجري بإنقضاض الشهاب ، قال أوس بن حجر يصف فرساً :

فانقضّ كالدُريّ يتبعه *** نقع يثور تخاله طُنبا


[396]:- هو عمر بن عثمان بن الحسن الجنزي بفتح الجيم وسكون النون نسبة إلى جنزة أعظم مدينة بأران قرأ على أبي المظفر الأبيوردي وتوفي سنة 550.
[397]:- يريد أن مقتضى حرف القسم فعل إنشائي حاصل في حال النطق ومقتضى ) إذا) الزمن المستقبل فتنافيا.
[398]:- هو محمد بن أبي القاسم بن بايجوك البقالي الأدمي أو الآدمي الخوارزمي النحوي أخذ اللغة والنحو عن الزمخشري وجلس بعد مكانه ، توفي سنة 562 عن نيف وسبعين سنة.