التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (18)

هذا متصل بقوله : { ويحلفون على الكذب } إلى قوله : { اتخذوا أيمانهم جنة } [ المجادلة : 14 - 16 ] وتقدم الكلام على نظير قوله : { يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا } [ المجادلة : 6 ] . كما سبق آنفاً في هذه السورة ، أي اذكر يوم يبعثهم الله .

وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] .

والتشبيه في قوله : { كما يحلفون لكم } في صفة الحلف ، وهي قولهم : إنهم غير مشركين ، وفي كونه حلفاً على الكذب ، وهم يعلمون ، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية [ الأنعام : 23 ] بقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين . } ومعنى { ويحسبون أنهم على شيء } يظنون يومئذٍ أن حلفهم يفيدهم تصديقَهم عند الله فيحسبون أنهم حصّلوا شيئاً عظيماً ، أي نافعاً .

و { على } للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوِه كقوله : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .

وحذفت صفة { شيء } لظهور معناها من المقام ، أي على شيء نافع ، كقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل } [ المائدة : 68 ] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئِل عن الكُهّان « ليسوا بشيء » .

وهذا يقتضي توغّلَهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باققٍ في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلّقة به ، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثاً في عالم التكليف . وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية أكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة ، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيدها الله زكاء وارتياضاً يوم البعث . وإن انغمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويهاً لحالها لتكون مهزلة لأهل المحشر . وقد تبقى في النفوس الزكية خَلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون } [ الزخرف : 67 70 ] . وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع ، فيقول الله : أو لستَ فيما شئتَ قال : بلى ولكن أحب أن أزرع ، فأسْرع وبذر فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثالَ الجبال . وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زَرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقراراً لما فهمه الأعرابي "

وفي حديث جابر بن عبد الله عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُبعَث كل عبد على ما مَات عليه " قال عياض في « الإِكمال » : هو عام في كل حالة مات عليها المرء . قال السيوطي : يبعث الزمار بمزماره . وشارب الخمر بقدحه اهـ . قلت : ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه إذ تصير العلوم على الحقيقة .

وختم هذا الكلام بقوله تعالى : { ألا إنهم هم الكاذبون } وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله : { ويحلفون على الكذب } [ المجادلة : 14 ] . فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب ، حتى قُصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله : { إنهم هم الكاذبون } وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم . وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيداً لمفاد الحصر الادعائي ، وهو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم ، وبأداة الاستفتاح المقتضية استمالة السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث .