التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

عطف على قوله { هو الذي خلقكم من طين } أي خلقكم ولم يهمل مراقبتكم ، فهو يعلم أحوالكم كلها .

فالضمير مبتدأ عائد إلى اسم الجلالة من قوله { الحمد لله } وليس ضمير فصل إذ لا يقع ضمير الفصل بعد حرف العطف . وقوله { الله } خبر عن المبتدأ . وإذ كان المبتدأ ضميرا عائدا إلى اسم الله لم يكن المقصود الإخبار بأن هذا الذي خلق وقضى هو الله إذ قد علم ذلك من معاد الضمائر ، فتعين أن يكون المقصود من الإخبار عنه بأنه الله معنى يفيده المقام ، وذلك هو أن يكون كالنتيجة للأخبار الماضية ابتداء من قوله { الحمد لله الذي خلق } فنبه على فساد اعتقاد الذين أثبتوا الإلهية لغير الله وحمدوا ألهتهم بأنه خالق الأكوان وخالق الإنسان ومعيده ، ثم أعلن أنه المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض ؛ إذ لا خالق غيره كما تقرر آنفا . وإذ هو عالم السر والجهر ، وغيره لا إحساس له فضلا عن العقل فضلا عن أن يكون عالما .

ولما كان اسم الجلالة معروفا عندهم لا يلتبس بغيره صار قوله { وهو الله } في معنى الموصوف بهذه الصفات هو صاحب هذا الاسم لا غيره .

وقوله : { في السموات وفي الأرض } متعلّق بالكون المستفاد من جملة القصر ، أو بما في { الحمد لله } [ الأنعام : 1 ] من معنى الإنفراد بالإلهية ، كما يقول من يذكر جواداً ثم يقول : هو حاتم في العرب ، وهذا لقصد التنصيص على أنّه لا يشاركه أحد في صفاته في الكائنات كلّها .

وقوله : { يعلم سرّكم وجهركم } جملة مقرّرة لمعنى جملة { وهو الله } ولذلك فصلت ، لأنّها تتنزّل منا منزلة التوكيد لأنّ انفراده بالإلهية في السماوات وفي الأرض ممّا يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية .

ولا يجوز تعليق { في السماوات وفي الأرض } بالفعل في قوله : { يعلم سرّكم } لأنّ سرّ النّاس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصّة دون السماوات ، فمن قدّر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيّاً .

وذكر السرّ لأنّ علم السرّ دليل عموم العلم ، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال . والمراد ب { تكسبون } جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد .

والخطاب لجميع السامعين ؛ فدخل فيه الكافِرون ، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب ، لأنّه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين .