نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالاً على أن العالم بها هو خالقه ، و{[28567]}أن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته : عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو{[28568]} منها ، {[28569]} فلم يكن{[28570]} إلهاً ، وكان الإله هو العالم وحده ، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب ، وكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح : لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء{[28571]} ، قال تعالى عاطفاً { هو الذي } دالاً على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام{[28572]} القدرة والاختيار ، لأن إنكارهم المعاد لأمرين : أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو{[28573]} قادر مختار ، والثاني أنه - على تقدير تسليم الاختيار - غير عالم بالجزئيات ، فلا يمكنه تمييز بدن{[28574]} زيد عن أجزاء{[28575]} بدن عمرو ، فإذا قام الدليل على كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات : الكليات والجزئيات{[28576]} ، زالت جميع الشبهات : { وهو الله } أي الذي له هذا{[28577]} الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهاً له وخضوعاً وتعبداً ، وعلق بهذا المعنى قوله : { في السماوات } لأن من في الشيء يكون متصرفاً فيه{[28578]} .

ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال : { وفي الأرض } أي هذه صفته دائماً {[28579]}على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا{[28580]} الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي{[28581]} العلو والسفل ، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي ، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره ، ضعيف التصرف فيما وراءه ، ومن كان محتاجاً نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية : أين الله ؟ قالت : في السماء ، ومحجوج بحديث : " أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول ، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج ، ومؤيد بصحيح النقل { ليس كمثله شيء } أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه ، و " قد كان الله ولا شيء معه " ، وحديث " ليس فوقك شيء " - رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه - والله الموفق .

ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط ، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء{[28582]} ، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق{[28583]} فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه ، ثم أقدره على ذلك ؛ قدم الخفي فقال شارحاً لكونه لا يغيب عنه شيء : { يعلم سركم ) .

ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه ، صرح به فقال : { وجهركم } ونسبة كل منها إليه على حد سواء{[28584]} ، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بعد ؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال ، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع ، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال : { ويعلم ما تكسبون } فأفاد ذلك صفتي{[28585]} السمع والبصر مع إثبات العلم ،


[28567]:من ظ، وفي الأصل: أو.
[28568]:سقط مكن ظ.
[28569]:في ظ: وكان.
[28570]:في ظ: وكان.
[28571]:وفي سيرة ابن هشام 2/219: الحصى- وكلاهما واحد.
[28572]:زيد بعده في الأصل: علم، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[28573]:سقط من ظ.
[28574]:في ظ: بدون.
[28575]:سقط من ظ.
[28576]:سقط من ظ.
[28577]:سقط من ظ.
[28578]:زيد ما بين الحاجزين من ظ.
[28579]:زيد ما بين الحاجزين من ظ.
[28580]:في ظ" بهذا.
[28581]:زيدت الواو بعده في ظ فحذفناها لاستقامة العبارة.
[28582]:من ظ، وفي الأصل: استواء.
[28583]:في ظ: تعلق.
[28584]:في ظ: السواء.
[28585]:في ظ: صفة.