إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

وقوله تعالى : { وَهُوَ الله } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شُمولِ أحكام إلاهيّته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء إثرَ الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلْقِهم وتقديرِ آجالِهم ، وقوله تعالى : { فِي السماوات وَفي الأرض } متعلقٌ بالمعنى الوصفيِّ الذي يُنبئ عنه الاسم الجليل ، إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل : وهو المعبودُ فيهما ، وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةُ المبنيَّةُ على الحِكَم البالغة ، فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قيل : وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى : { وَهُوَ الذي في السماء إله وَفي الأرض إله } [ الزخرف ، الآية 84 ] وليس المراد بما ذُكر من الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك ، بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله : ( أسدٌ عليَّ ) الخ ، ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه ، فجَرى مَجرى جريءٌ عليَّ ، وبهذا تبين أن ما قيل ، بصدد التصوير والتفسير ، أي هو المعروفُ بذلك في السماوات وفي الأرض ، أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية ، بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك ، بمعزلٍ من التحقيق ، فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفسُ الوصف الذي اشتهر به ، إذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به . ألا يُرى أن كلمة ( عليّ ) في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً ، وقيل : هو متعلق بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل : وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما ، وقيل : بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنه قيل : وهو الذي يقال له : الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق ، من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع ، لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية ، أو على تقدير القول . وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس ، عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً ، منزلةَ كونِه تعالى فيهما ، وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما ، فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قولُه عز وجل . { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال أو ما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كان من الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه ، وتعليقُ علمِه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً ، فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب ، وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً ، لكن لا لما قيل من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم ، إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً ، إذ المراد بما ذكره هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل ، لا ريبَ في أنهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً ، بل لأن ما ذُكر من العلم غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له ، وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً ، لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له ، بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف في البيانية . وقيل : هو خبر بعد خبر عند من يجوِّز كونَ الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِي حَيَّةٌ تسعى } [ طه ، الآية 20 ] وقيل : هو الخبر ، والاسمُ الجليل بدلٌ من ( هو ) ، وبه يتعلق الظرف المتقدم ، ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك : رميتُ الصيدَ في الحرَم ، إذا كان هو فيه وأنت في خارجَه ، ولعل جعْلَ سرهم وجهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لا يعزُب عن علمه شيءٌ منهما في أي مكان كان ، لا لأنهما قد يكونان في السماوات أيضاً ، وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى . { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية ، وتخصيصُها بالذكر مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها ، لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم .