الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

قوله تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ } : في هذه الآية أقوالٌ كثيرة لخَّصْتُ جميعها في اثني عشر وجهاً ؛ وذلك أن " هو " فيه قولان ، أحدهما : هو ضمير اسم الله تعالى يعود على ما عادت عليه الضمائر قبله والثاني : أنه ضمير القصة ، قال أبو عليّ . قال الشيخ : " وإنما فَرَّ إلى هذا لأنه لو أعاده على الله لصار التقدير : الله الله ، فتركَّب الكلام من اسمين متَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى لا نسبةَ بينهما إسنادية " قلت : الضمير إنما هو عائد على ما تقدَّم من الموصوف بتلك الصفاتِ الجليلة وهي خَلْقُ السماوات والأرض ، وجَعْلُ الظلمات والنور ، وخَلْق الناس من طين إلى آخرها ، فصار في الإِخبار بذلك ، فائدةٌ من غير شك ، فعلى قول الجمهور يكون " هو " مبتدأ و " الله " خبره ، و " في السماوات " متعلق بنفس الجلالة لما تَضَمَّنَتْه من معنى العبادة كأنه قيل : وهو المعبود في السماوات ، وهذا قول الزجاج وابن عطية والزمخشري .

قال الزمخشري : " في السماوات " متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : وهو المعبود فيها - ومنه : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] - أو هو المعروف بالإِلهيَّة والمتوحِّد بالإِلهيَّة فيها ، أو هو الذي يقال له " الله " لا يَشْرَكُه في هذا الاسمِ غيره " . قلت : إنما قال : " أو هو المعروف أو هو الذي يقال له الله " لأن هذا الاسم الشريف تقدَّم لك فيه خلاف : هل هو مشتق أو لا ؟ فإن كان مشتقاً ظهر تعلُّق الجار به ، وإن كان ليس بمشتق : فإمَّا أن يكون منقولاً أو مرتجلاً ، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل ؛ لأن الأعلام لا تعمل فاحتاج أنْ يَتَأوَّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة ، فقوله " المعبود " راجع للاشتقاق ، وقوله " المعروف " راجع لكونه عَلَماً منقولاً ، وقوله " الذي يقال له اللهُ " راجع إلى كونه مرتجلاً ، وكأنه -رَحِمه الله - استشعر بالاعتراض المذكور . والاعتراضُ منقولٌ عن الفارسي ، قال : " وإذا جَعَلْتَ الظرف متعلقاً باسم الله جاز عندي على قياس مَنْ يقول إن الله أصله الإِله ، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن لا يتعلق به عنده إلا ان تُقَدِّر فيه ضرباً من معنى الفعل " فكأن الزمخشري - والله أعلم - أخذ هذا من قول الفارسيِّ وبَسَطه . إلا أن أبا البقاء نقل عن أبي علي أنه لا يتعلَّق " في " باسم الله لأنه صار بدخول الألف واللام ، والتغييرِ الذي دخله كالعلمَ ، ولهذا قال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] . فظاهرُ هذا النقلِ أنه يمنع التعلُّق به وإن كان في الأصل مشتقاً .

وقال الزجاجُ : " هو متعلِّقٌ بما تضمَّنه اسم الله من لمعاني كقولك " أميرُ المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب " . قال ابن عطية : " هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرُها إحرازاً لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى . وإيضاحُه أنه أراد أن يَدَلَّ على خَلْقه وآثارِ قدرته وإحاطته واستيلائه نحو هذه الصفات ، فَجَمع هذه كلِّها في قوله : { وَهُوَ اللَّهُ } أي : الذي له هذه كلُّها في السماوات وفي الأرض ، كأنه قال : وهو الخالق والرازق والمُحْيي والمحيط في السماوت والأرض ، كما تقول : " زيد السلطان في الشام والعراق " فلو قصدت ذات زيد لكان محالاً ، فإذ كان مقصدُ قولك : [ زيد ] الآمرُ الناهي الذي يولِّي ويَعْزِل كان فصيحاً صحيحاً ، فأقمت السلطنة مُقامَ هذه الصفات ، كذلك في الآية الكريمة أقمت " الله " مقام تلك الصفات " .

قال الشيخ : " ما ذكره الزجاج ، وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو تساعد عليه ؛ لأنهما زعما أن " في السماوات " متعلق باسم الله لِما تَضَمَّنه من تلك المعاني ، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها ، بل العمل من حيث اللفظُ لواحدٍ منها ، وإن كان " في السماوات " متعلقاً بجميعها من حيث المعنى ، بل الأوْلى أن يتعلَّق بلفظ " الله " لِما تضمَّنه من معنى الألوهية ، وإن كان عَلَماً لأن العلمَ يَعْمَلُ في الظرف لِما يتضمنه من المعنى كقوله :

أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأحيانْ

ف " بعضَ " نصب بالعلمَ لأنه في معنى أنا المشهور " . قلت : قوله " لو صُرِّح بها لم تعمل " ممنوعٌ ، بل تعمل ويكون عملُها على سبيل التنازع ، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحاً ، ولما ذكر الشيخ ما قاله الزمخشري قال : " فانظر كيف قَدَّر العاملَ فيها واحداً لا جميعَها " يعني أنه استنصر به فيما رَدَّ به على الزجاج وابن عطية .

الوجه الثاني : أن " في السموات " معلِّقٌ بمحذوف هو صفة لله تعالى حُذِفَتْ لفَهْمِ المعنى ، فقدَّرها بعضهم ، وهو الله المعبود ، وبعضهم : وهو الله المدبِّر ، وحَذْفُ الصفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلا موضعُ يسيرةٌ على نَظَرٍ فيها ، فمنها { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } [ الأنعام : 66 ] أي المعانِدون ، { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي الناجين فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه .

الوجه الثالث : قال النحاس : " وهو أحسنُ ما قيل فيه - إن الكلام تمَّ عند قوله : { وَهُوَ اللَّهُ } والمجرور متعلِّقٌ بمفعول " يَعْلَم " وهو " سِرَّكم وجَهْرَكم " [ أي : ] يَعْلَم سِرَّكم وجَهْركم فيهما " وهذا ضعيفٌ جداً لِما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وقد عرف ما فيه .

الوجه الرابع : أن الكلام تمَّ أيضاً عند الجلالة ، ويتعلق الظرف بنفس " يعلم " وهذا ظاهر ، و " يعلم " على هذين الوجهين مستأنف .

الوجه الخامس : أن الكلام تمَّ عند قوله { فِي السموات } فيتعلق { فِي السموات } باسم الله ، على ما تقدَّم ، ويتعلَّق " في الأرض " ب " يعلم " . وهو قول الطبري قال أبو البقاء " وهو ضعيفٌ ؛ لأن الله تعالى معبود في السماوات وفي الأرض ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، فلا تتخصَّص إحدى الصفتين بأحد الظرفين " وهو رَدٌّ جميل .

الوجه السادس : أنَّ " في السماوات " متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من " سرَّكم " ثم قُدِّمَت الحالُ على صاحبها وعلى عاملها .

السابع : أنه متعلق ب " يَكْسِبون " وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول ؛ لأن " ما " موصولة اسمية أو حرفية ، وأيضاً فالمخاطبون كيف يكسِبون في السماوات ؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تمَّ عند قوله " في السماوات " وعلَّق " في الأرض " ب " يَكْسِبون " لسَهُلَ الأمرُ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ .

الثامن : أن " الله " خبر أول ، و " في السماوات " خبر ثان . قال الزمخشري : " على معنى : أنَّه الله وأنه في السماوات وفي الأرض ، وعلى معنى : أنه عالمٌ بما فيها لا يخفى عليه شيء ، كأنه ذاته فيهما " قال الشيخ : " وهذا ضعيفٌ لأن المجرور ب " في " لا يدل على كون مقيد ، إنما يدل على كونٍ مُطْلَق " وهذا سهلُ الجواب لتقدُّمِه مراراً .

التاسع : أن يكون " هو " مبتدأ و " الله " بدل منه ، و " يَعْلَمُ " خبره ، و " في السماوات " على ما تقدَّم .

العاشر : أن يكون " الله " بدلاً أيضاً ، و " في السماوات " الخبرُ بالمعنى الذي قال الزمخشري .

الحادي عشر : أن " هو " ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء ، والجلالة مبتدأ ثان ، وخبرها " في السماوات " بالمعنى المتقدَّم أو " يَعْلَمُ " والجملة خبر الأول - وهو الثاني عشر - مفسرةً له .

وأمَّا " يَعْلَمُ " فقد عَرَفْت تفاصيل ما تقدَّم أنه يجوز أن يكون مستأنفاً ، فلا محلَّ [ له ] ، أو في محل رفع خبراً ، أو في محل نصب على الحال ، و " سِرَّكم وجهرَكم " : يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل . وأجاز أبو البقاء أن يكونا واقعين موقع المفعول به أي مُسَرَّكم ومَجْهوركم ، واستدل بقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }

[ البقرة : 77 ] ولا دليلَ [ فيه ] لأنه يجوز أن تكون " ما " مصدرية . و " ما " في " ما تكسبون " يحتمل أن تكون مصدريةً - وهو الأليق لمناسبة المصدَرَيْن قبلها - وأن تكون بمعنى الذي .