التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير { سورة الجمعة } ولا يعرف لها اسم غير ذلك . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة الحديث . وسيأتي عند تفسير قوله تعالى { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } .

ووجه تسميتها وقوه لفظ { الجمعة } فيها وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام .

وقال ثعلب : إن قريشا كانت تجتمع فيه عند قصي بدار الندوة . ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة .

ولم أر في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم .

وقد أطلق اسم { الجمعة } على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال . وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ، ووقع في كلام عائشة كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي الخ .

وفي كلام أنس كنا نقيل بعد الجمعة ، ومن كلام ابن عمر كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف ، أي من المسجد . ومن كلام سهل بن سعد ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة . فيحتمل أن يكون لفظ الجمعة الذي في اسم هذه السورة معنيا به صلاة الجمعة لأن في هذه السورة أحكاما لصلاة الجمعة . ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة .

وهي مدنية بالاتفاق .

ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر ، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفا أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر .

وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة فتكون قصية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة وسيأتي ذكر ذلك .

وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول السورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف . وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما سيأتي . فكان فرضها ثابتا بالسنة قولا وفعلا . وما ذكر في هذه السورة من قوله { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع ، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها كما سيأتي .

وقد عدت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن .

وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة .

وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادين من قراء الأمصار .

أغراضها

أول أغراضها ما نزلت لأجله وهو التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة والأمر بترك ما يشغل عنها في وقت أدائها . وقدم لذلك : التنويه بجلال الله تعالى .

والتنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم . وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم .

وأن رسالته لهم فضل من الله .

وفي هذا توطئة لذم اليهود لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين .

ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جعل يوم الجمعة اليوم الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت وهو المعروف في تلك البلاد .

وإبطال زعمهم أنهم أولياء الله .

وتوبيخ قوم انصرفوا عنها لمجيء عير تجارة من الشام .

افتتاح السورة بالإِخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حِرصاً على الابتياع من عِيرٍ وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة .

وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه أوثر المضارع في قوله : { يسبح } .

ومعاني هذه الآية تقدمت مفرقة في أوائل سورة الحديد وسورة الحشر .

سوى أن هذه السورة جاء فيها فعل التسبيح مُضارعاً وجيء به في سواها ماضياً لمناسبةٍ فيها وهي : أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم وخرجوا لتجارة أو لهو فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضاً بالذين لم يتموا صلاة الجمعة .

ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر .

ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا يَنصرِف عن مجلس من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم .

و { القُدوس } : المنزَّه عن النقص وهو يُرغب في حضرته . و { العزيز } : يَعتز الملتفون حوله . فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة . وكذلك { الحكيم } إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العِير مَا خطب به النبي صلى الله عليه وسلم إذْ تركوه قائماً في الخطبة .