المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعۡسٗا لَّهُمۡ وَأَضَلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (8)

وقوله تعالى : { فتعساً لهم } معناه : عثاراً وهلاكاً فيه ، وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر ، ومنه قول الشاعر : [ المنسرح ]

يا سيدي إن عثرت خذ بيدي . . . ولا تقل : لا ، ولا تقل تعسا{[10357]}

وقال الأعشى : [ البسيط ]

بذات لوت َعِفرناٍة إذا عثرت . . . فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا{[10358]}

ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها : تعس مسطح{[10359]} . قال ابن السكيت : التعس أن يخر على وجهه . و : { تعساً } مصدر نصبه فعل مضمر .


[10357]:وفي بعض النسخ جاء لفظ البيت كالآتي: يا سيدي إن عثرت خذ بيدي ولا تقل لي أفا ولا تعسا وفي اللسان:"النعس: العثر، وألا ينتعش العاثر من عثرته، وأن ينكس في سفال، وقيل: التعس: الانحطاط والعثور"، وفيه أيضا أن التعس هو الشر، أو هو البعد، أو أن يخر المرء على وجهه، او و الهلاك، وكل هذه المعاني وارد.
[10358]:قال الأعشى هذا البيت من قصيدته المعروفة التي قالها في مدح هوزة بن علي الحنفي، والتي بدأها بقوله:(بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا)، والبيت في وصف ناقة يقول إنه استعان بها على الوصول إلى بلدة يرهب الجوّاب ظلامها، وذات لوث: قوية، وقوله: "بذات لوث"، متعلق بقوله في بيت سابق:"كلفت مجهولها نفسي" أي مجهول هذه البلدة الرهيبة. وعفرناة: قوية شديدة، من قولهم: لبؤة عفرناة، أي قوية، ويقال فيها: عِفِرناة-بكسر العين والفاء- بمعنى الجرأة، وتقال للذكر والأنثى من الأسود، ولعله شبه ناقته باللبؤة القوية الجريئة. و"لعا": صوت معناه الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عثرته، يقال: لعا لفلان، وفي الدعاء عليه يقال: لا لعا له. ومعنى قوله:"فالتعس أدنى لها من أن أقول: لعا" أنها لا تعثر لقوتها، ولو عثرت لقلت لها: لعا، قال ذلك ابن بري وذكره عنه صاحب اللسان(لوث).
[10359]:قالت أم مسطح ذلك في حديث الإفك الذي أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد، وهو حديث طويل مشهور ذكرناه في تفسير سورة (النور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعۡسٗا لَّهُمۡ وَأَضَلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (8)

هذا مقابل قوله : { والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم } [ محمد : 4 ] فإن المقاتلين في سبيل الله هم المؤمنون ، فهذا عطف على جملة { والذين قاتلوا في سبيل الله } [ محمد : 4 ] الآية .

والتعْس : الشقاء ويطلق على عدة معان : الهلاك ، والخيبة ، والانحطاط ، والسقوط ، وهي معان تحوم حول الشقاء ، وقد كثر أن يقال : تعسا له ، للعاثر البغيض ، أي سقوطاً وخروراً لا نهوض منه . ويقابله قولهم للعاثر : لعاً لهَ ، أي ارتفاعاً ، قال الأعشى :

بذات لَوث عفرناةٍ إذا عَثَرت *** فالتعسُ أولى لها من أن أقول لَعَا

وفي حديث الإفك : فعثرت أم مسطح في مِرطها فقالت : تَعِس مسطح لأن العثار تَعْس .

ومن بدائع القرآن وقوع { فتَعْساً لهم } في جانب الكفار في مقابلة قوله للمؤمنين : { ويُثبتْ أقدامكم } [ محمد : 7 ] .

والفعل من التعس يجيء من باب منع وباب سمع ، وفي « القاموس » إذا خاطبتَ قلتَ : تَعَست كمَنع ، وإذا حَكيت قلت : تَعِسَ كسمع .

وانتصب { تعساً } على المفعول المطلق بدلاً من فعله . والتقدير : فتعسوا تعسهم ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله مثل تبًّا له ، وويحاً له . وقصد من الإضافة اختصاص التعس بهم ، ثم أدخلت على الفاعل لام التبيين فصار { تعساً لهم } . والمجرور متعلق بالمصدر ، أو بعامله المحذوف على التحقيق وهو مختار بن مالك وإن أباه ابنُ هشام . ويجوز أن يكون { تعساً لهم } مستعملاً في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفظيع ، وذلك من استعمالات هذا المركب مثل سَقياً له ورَعياً له وتَبًّا له وويحاً له وحينئذٍ يتعين في الآية فعل قول محذوف تقديره : فقال الله : تعساً لهم ، أو فيقال : تعساً لهم .

ودخلت الفاء على { تعساً } وهو خبر الموصول لمعاملة الموصول معاملة الشرط .

وقوله : { وأضل أعمالهم } إشارة إلى ما تقدم في أول السورة من قوله : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] ، وتقدم القول على { أضلّ أعمالهم } هنالك .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعۡسٗا لَّهُمۡ وَأَضَلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (8)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَالّذِينَ كَفَرُوا" بالله، فجحدوا توحيده "فَتَعْسا لَهُمْ "يقول: فخزيا لهم وشقاء وبلاء...

وقوله: "وأضَلّ أعمالَهُمْ" يقول وجعل أعمالهم معمولة على غير هدى ولا استقامة، لأنها عملت في طاعة الشيطان، لا في طاعة الرحمن...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

أي هلاكا لهم، أي محنة عند الهزيمة والقتل. وجائز أن يكون أُريد به الهلاك. وأصل التّعس العَثْرُ والسقوط، وهو الهلاك، فيرجع إلى ما ذكرنا، والله أعلم...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

وأصل التعس في النّاس الدواب، وهو أن يقال للعاثر: تعساً، إذا لم يريدوا قيامه، ويقال: أتعسه الله، فتعس وهو متعس، وضدّه لعاء إذا أرادوا قيامه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

تعساً لهم: لعناً وطرداً، وقَمْعاً وبُعداً!...

{أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: هَتَكَ أستارَهم، وأَظْهَرَ للمؤمنين أسرارَهم، وأَخْمَدَ نارَهم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لكم الثبات ولهم الزوال والتغير والهلاك فلا يكون الثبات، وسببه ظاهر لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها ولا ثبات عند من له قدرة، فهي غير صالحة لدفع ما قدره الله تعالى عليهم من الدمار، وعند هذا لا بد عن زوال القدم والعثار، وقال في حق المؤمنين {ويثبت} بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وقال في حقهم بصيغة الدعاء، وهي أبلغ من صيغة الإخبار من الله لأن عثارهم واجب لأن عدم النصرة من آلهتهم واجب الوقوع إذ لا قدرة لها والتثبيت من الله ليس بواجب الوقوع، لأنه قادر مختار يفعل ما يشاء. وقوله {وأضل أعمالهم} إشارة إلى بيان مخالفة موتاهم لقتلى المسلمين، حيث قال في حق قتلاهم {فلن يضل أعمالهم} وقال في موتى الكافرين {وأضل أعمالهم}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{والذين كفروا} أي ستروا ما دل عليه العقل وقادت إليه الفطر الأولى، وبين أن سوء أعمالهم أسباب وبالهم بالفاء. فقال مؤكداً بجعل الخبر مفعولاً مطلقاً لأجل استبعادهم بما لهم من القوة بكثرة العدد والملاءة بالعدد: {فتعساً} أي فقد عثروا فيقال لهم ما يقال للعاثر الذي يراد أنه لا يقوم: تعساً لا قيام معه، كما يقال لمن عثر وأريد قيامه: تعساً لك-، والمراد بالتعس الانحطاط والسفول والهوان والقلق. ولما كان كأنه قيل: لمن هذا؟ قيل: {لهم} فلا يكادون يثبتون في قتال لمن صلحت من الأعمال. ولما كان الإنسان قد يعثر ويقع ويقال له: تعساً، ويقوم بعد ذلك، ولا يبطل عمله، بين أن قوله ليس كذلك، بل مهما قاله كان لا يتخلف أصلاً، فقال معبراً بالماضي إشارة إلى التحتم فيه، وأما الاستقبال فربما تاب على بعضهم فيه عاطفاً على ما تقديره فقال تعالى لهم ذلك: {وأضل أعمالهم} وإن كانت ظاهرة الإيقان لأجل تضييع الأساس بالإيمان.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وذلك عكس النصر وتثبيت الأقدام. فالدعاء بالتعس قضاء من الله سبحانه بالتعاسة والخيبة والخذلان وإضلال الأعمال ضياع بعد ذلك وفناء...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والتعْس: الشقاء ويطلق على عدة معان: الهلاك، والخيبة، والانحطاط، والسقوط، وهي معان تحوم حول الشقاء، وقد كثر أن يقال: تعسا له، للعاثر البغيض، أي سقوطاً وخروراً لا نهوض منه...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} فهم غارقون في وحول التعاسة التي تثقل أرواحهم، وضائعون في متاهات الخيبة والخذلان والخسران التي تضيع فيها مواقفهم، وأية تعاسةٍ أشد من أن يتطلع الإنسان إلى مستقبله، فلا يرى إلا الفراغ القاتل والضياع الهائل، وينظر إلى مصيره، فلا يبصر إلا النار، ويلتفت في الأعالي، فلا يجد إلا غضب الله وسخطه والدعاء عليه بالتعاسة المطلقة في كل شيء...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(والذين كفروا فتعساً لهم وأضلّ أعمالهم). «تعس» على وزن نحس بمعنى الانزلاق والهوي، وما فسّره البعض بأنّه الهلاك والانحطاط، فهو لازمه في الواقع لا معناه. وعلى كلّ حال، فإنّ المقارنة بين هذين الفريقين عميقة المعنى جدّاً، فالقرآن يقول في شأن المؤمنين (يثبّت أقدامهم) وفي شأن الكافرين (أضلّ أعمالهم) وبصيغة اللعنة، ليكون التعبير أبلغ وأكثر جاذبية وتأثيراً. نعم، إنّ الكافرين إذا انزلقوا وزلّت أقدامهم، فليس هناك من يأخذ بأيديهم لينقذهم من الهلكة، بل إنّهم سينحدرون إلى الهاوية سريعاً وبسهولة، أمّا المؤمنون، فإنّ ملائكة الرحمة تهب لنجدتهم ونصرتهم، ويحفظونهم من المنزلقات والمنحدرات، كما نقرأ ذلك في موضع آخر، حيث تقول الآية (30) من سورة فصلت: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة). إنّ أعمال المؤمنين مباركة، أمّا أعمال الكافرين فإنّها بائرة ولذلك فهي تزول وتفنى سريعاً...