المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (10)

واختلف الناس في قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } فقال الفراء : أراد الفرقة الثالثة من الصحابة وهي من آمن أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال جمهور العلماء : أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة ، فوصف الله تعالى القول الذي ينبغي أن يلتزمه كل من لم يكن من الصدر الأول وإعراب { الذين } رفع عطفاً على { هم } أو على { الذين } أو رفع بالابتداء . وقوله تعالى : { يقولون } حال فيها الفائدة والمراد : والذين جاؤوا قائلون كذا أو يكون يقولون صفة ، ولهذه الآية قال مالك وغيره : إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض{[11028]} فلا حظ له في الغنيمة أدباً له ، وجاء عراقيون إلى علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ فقالوا : لا ، أفمن { الذين تبوءوا الدار والإيمان } ؟ قالوا : لا ، قال فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم : { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية . قوموا فعل الله بكم وفعل ، وقال الحسن أدركت ثلاثمائة من الصحابة منهم سبعون بدرياً كلهم يحدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ){[11029]} . فالجماعة أن لا تسبوا الصحابة ولا تماروا في دين الله ولا تكفروا أحداً من أهل التوحيد بذنب » . والغل : الحقد والاعتقاد الرديء ، وقرأ الأعمش : «في قلوبنا غمراً للذين » والغمر : الحقد ، وقد تقدم الاختلاف في قراءة { رؤوف } .


[11028]:في بعض النسخ:"أو نقص".
[11029]:هذا جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد في مسنده(4-130)، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن الحرث الأشعري، وفي آخره كما جاء في مسند أحمد (وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن، بالجماعة، والسمع، والطاعةن والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثا جهنم-قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم- فادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل). والرِّبقة في الأصل: عُروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تُمسكها، فاستعارها للإسلام يعني ما يشد به المسلم نفسه من حدود الإسلام وأحكامه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(فهو من جُثا جهنم) فقد قال ابن الأثير في كتاب النهاية:"الجُثا: جمع جُثوة بالضم، وهو الشيء المجموع" فكأن المعنى: من جماعة جهنم، وتروى الكلمة جُثي، وتروى: جُثىن وقال أبو عبيدة: قد يكون المعنى: إنه ممن يجثو على الركب في جهنم. ورويت اللفظة في مسند أحمد(جُثاء) بالهمزة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (10)

عطف على { والذين تبوؤا الدار } [ الحشر : 9 ] على التفسيرين المتقدمين ؛ فأما على رأي من جعلوا { والذين تبوءوا الدار } [ الحشر : 9 ] معطوفاً على { للفقراء المهاجرين } [ الحشر : 8 ] جعلوا { الذين جاؤوا من بعدهم } فريقاً من أهل القُرى ، وهو غير المهاجرين والأنصار بلْ هو من جاء إلى الإِسلام بعد المهاجرين والأنصار ، فضمير { من بعدهم } عائد إلى مجموع الفريقين .

والمجيء مستعمل للطروِّ والمصير إلى حالة تماثل حالهم ، وهي حالة الإِسلام ، فكأنهم أتوا إلى مكان لإِقامتهم ، وهذا فريق ثالث وهؤلاء هم الذين ذُكروا في قوله تعالى بعدَ ذكر المهاجرين والأنصار { والذين اتَّبعوهم بإحسان } [ التوبة : 100 ] أي اتبعوهم في الإِيمان .

وإنما صيغ { جاءوا } بصيغة الماضي تغليباً لأن من العرب وغيرهم من أسلموا بعد الهجرة مثل غِفارة ، ومُزينة ، وأسلم ، ومثل عبد الله بن سَلاَم ، وسلمان الفارسي ، فكأنه قيل : الذين جاؤوا ويجيئون ، بدلالة لحن الخطاب . والمقصود من هذا : زيادة دفع إيهام أن يختص المهاجرون بما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى كما اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم بفيْء بني النضير .

وقد شملت هذه الآية كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر ، وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . روى البخاري من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال عمر : لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها ( أي الفاتحين ) كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر .

وذكر القرطبي : أن عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم : تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ فلما غدَوا عليه قال : قد مررت بالآيات التي في سورة الحشر وتلا { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } إلى قوله : { أولئك هم الصادقون } ( 7 ، 8 ) . قال : ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله : والذين جاءوا من بعدهم } إلى قوله : { رؤوف رحيم } ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإِسلام إلا وقد دخل في ذلك اهـ .

وهذا ظاهر في الفيء ، وأما ما فُتح عنوة فمسألة أخرى ولعمر بن الخطاب في عدم قسمته سوادَ العراق بين الجيش الفاتحين له عمل آخر ، وهو ليس من غرضنا . ومحله كتب الفقه والحديث .

والفريق من المفسرين الذين جعلوا قوله تعالى : { والذين تبوءوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] كلاماً مستأنفاً ، وجعل { يحبون من هاجر إليهم } [ الحشر : 9 ] خبراً عن اسم الموصول ، جعلوا قوله : { والذين جاءوا من بعدهم } كذلك مستأنفاً .

ومن الذين جعلوا قوله : { والذين تبوءوا } [ الحشر : 9 ] معطوفاً على { للفقراء المهاجرين } [ الحشر : 8 ] من جعل قوله : { والذين جاءوا من بعدهم } مستأنفاً . ونسبه ابن الفرس في « أحكام القرآن » إلى الشافعي . ورأى أن الفيء إذا كان أرضاً فهو إلى تخيير الإِمام وليس يتعين صرفه للأصناف المذكورة في فيء بني النضير .

وجملة { يقولون ربنا اغفر لنا } على التفسير المختار في موضع الحال من { الذين جاؤوا من بعدهم } .

والغلّ بكسر الغين : الحسد والبغض ، أي سألوا الله أن يطَهر نفوسهم من الغلّ والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطُوه من فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وما فُضّل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة ، فبيّن الله للذين جاؤا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار ، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم .

والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضوا أنفسهم عليه .

وقد دلت الآية على أن حقاً على المسلمين أن يَذكروا سلفهم بخير ، وأن حقاً عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم ، قال مالك : من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قلبه عليه غل فليس له حق في فيْء المسلمين ، ثم قرأ { والذين جاءوا من بعدهم } الآية .

فلعله أخذ بمفهوم الحال من قوله تعالى : { يقولون ربنا اغفر لنا } الآية ، فإن المقصد من الثناء عليهم بذلك أن يضمروا مضمونه في نفوسهم فإذا أضمروا خلافه وأعلنوا بما ينافي ذلك فقد تخلف فيهم هذا الوصف ، فإن الفيء عطية أعطاها الله تلك الأصناف ولم يكتسبوها بحق قتال ، فاشترط الله عليهم في استحقاقها أن يكونوا محبين لسلفهم غير حاسدين لهم .

وهو يعني إلا ما كان من شنآن بين شخصين لأسباب عادية أو شرعية مثل ما كان بين العباس وعليّ حين تحاكما إلى عمر ، فقال العباس : اقض بيني وبين هذا الظالم الخائن الغادر . ومثل إقامة عمر حدّ القذف على أبي بَكرة .

وأما ما جرى بين عائشة وعليّ من النزاع والقتال وبين عليّ ومعاوية من القتال فإنما كان انتصاراً للحق في كلا رأيَي الجانبين وليس ذلك لغلّ أو تنقص ، فهو كضرب القاضي أحداً تأديباً له فوجب إمساك غيرهم من التحَزب لهم بعدهم فإنه وإن ساغ ذلك لآحادِهم لتكافىء درجاتهم أو تقاربها . والظنِّ بهم زوال الحزازات من قلوبهم بانقضاء تلك الحوادث ، لا يسوغ ذلك للأذناب من بعدهم الذين ليسوا منهم في عير ولا نفير ، وإنما هي مسحَة من حمية الجاهلية نَخرت عضد الأمة المحمدية .