وقوله تعالى : { إنا خلقنا الإنسان } هو هنا اسم الجنس بلا خلاف ، لأن آدم لم يخلق { من نطفة } ، و { أمشاج } معناه أخلاط وأحدها مَشَج بفتح الميم والشين قاله ابن السكيت وغيره ، وقيل : مشج مثل عدل وأعدال ، وقيل : مشيج مثل شريف وأشراف ، واختلف في المقصود من الخلط ، فقيل هو { أمشاج } ماء الرجل بماء المرأة ، وأسند الطبري حديثاً وهو أيضاً في بعض المصنفات «إن عظام ابن آدم وعصبة من ماء الرجل ، ولحمه وشحمه من ماء المرأة » وقيل هو اختلاط أمر الجنين بالنقلة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى غير ذلك . فهو أمر مختلط ، وقيل هو اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء فيه ، و { نبتليه } معناه نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا هو حال من الضمير في { خلقنا } كأنه قال : مختبرين له بذلك ، وقوله تعالى : { فجعلناه } عطف جملة تعم على جملة تعم ، وقال بعض النحويين إنما المعنى فنبتليه جعلناه { سميعاً بصيراً } ، ثم ترتب اللفظ موجزاً متداخلاً كأنه قال { نبتليه } فلذلك جعلناه ، والابتلاء على هذا أنما هو بالإسماع والإبصار لا بالإيجاب وليس { نبتليه } حالاً .
استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه { هل أتى على الإِنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } [ الإنسان : 1 ] لما فيه من التشويق .
والتقرير يقتضي الإِقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة ، فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له : إن الله خلقه بعد أن كان معدوماً فأوجَد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنساناً ، فثبت تعلُّق الخلق بالإِنسان بعد عدمه .
وتأكيد الكلام بحرف ( إنَّ ) لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أنّ الله خلق الإِنسان لعدم جريهم على موجَب العلم حيث عبدوا أصناماً لم يخلقوهم .
والمراد ب { الإنسان } مثل ما أريد به في قوله : { هل أتى على الإنسان } [ الإنسان : 1 ] أي كل نوع الإِنسان .
وأُدمج في ذلك كيفية خلق الإِنسان من نطفة التناسِل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة .
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة .
و { أمشاج } : مشتق من المشج وهو الخلط ، أي نطفة مخلوطة قال تعالى : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [ يس : 36 ] وذلك يفسر معنى الخلط الذي أشير إليه هنا .
وصيغة { أمشاج } ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد ، فهي إما جمع مِشْج بكسر فسكون بوزن عِدْل ، أي ممشوج ، أي مخلوط مثل ذِبح ، وهذا ما اقتصر عليه في « اللسان » و« القاموس » ، أو جمع مَشَج بفتحتين مثل سَبب وأسباب ، أو جمع مَشِج بفتح فكسر مثل كَتِف وأكتاف .
والوجه ما ذهب إليه صاحب « الكشاف » : أن { أمشاج } مفرد كقولهم : بُرمة أعشار وبُرد أكياش ( بهمزة وكاف وتحتية وألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين ) . قال : « ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مَشَج بل هما ( أي مَشج وأمشاج ) مِثلان في الإِفراد اه . وقال بعض الكاتبين : إنه خالف كلام سيبويه . وأشار البيضاوي إلى ذلك ، وأحسب أنه لم يَر كلام سيبويه صريحاً في منع أن يكون { أمشاج } مفرداً لأن أثبت الإِفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه .
فإذا كان { أمشاج } في هذه الآية مفرداً كان على صورة الجمع كما في « الكشاف » . فوصف { نطفة } به غير محتاج إلى تأويل ، وإذا كان جمعاً كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد ، كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص ، ( فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضواً ) فوصفُ النطفة يجمع الاسم للمبالغة ، أي شديدة الاختلاط .
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيمائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة .
وجملة { نبتليه } في موضع الحال من الإِنسان وهي حال مقدرة ، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل ، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف ، وهذه الحال كقولهم : مررتُ برجل معه صِقر صائداً به غداً .
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة { خلقنا } وبين { فجعلناه سَميعاً بصيراً } لأن الابتلاء ، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير ، فكان مقتضى الظاهر أن يقع { نبتليه } بعد جملة { إنا هديناه السبيل } [ الإنسان : 3 ] ، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة .
وجيء بجملة { إنا هديناه السبيل بياناً لجملة نبتليه } تفنناً في نظم الكلام .
وحقيقة الابتلاء : الاختبار لتُعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته .
وفُرع على خلقه { من نطفة } أنه جعله { سميعاً بصيراً } ، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره ، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه : سامعاً مبصراً ، لأن سمع الإِنسان وبصره أكثر تحصيلاً وتمييزاً في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان ، فبالسمع يتلقَّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وُجود الله وبديع صنعه .
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإِنسانَ من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإِنسان التي بها ارتكزتْ مدنيته وانتظمت جامعاته ، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله : { إنا هديناه السبيل الآيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.