السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين : إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى : { إنا خلقنا الإنسان } أي : بعد خلق آدم عليه السلام { من نطفة } أي : مادّة هي شيء يسير جداً من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه :

ما لي أراك تكرهين الجنة *** هل أنت إلا نطفة في شنه

وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه { لم يكن شيئاً مذكوراً } إذ كان علقة ومضغة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى : { أمشاج } أي : أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتاً لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله { رفرف خضر } [ الرحمن : 76 ] أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع ، وقال الزمخشريّ : { نطفة أمشاج } كبرمة أعشار وبرد أكياش ، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ، ويقال أيضاً : نطفة مشج قال الشماخ :

طوت أحشاء مرتجة لوقت *** على مشج سلالته مهين

ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما اه . فقد منع أن يكون أمشاجاً جمع مشج بالكسر . قال أبو حيان : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالاً لا يكون مفرداً ، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالاً مفرداً فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد برداً فوصفهما بالجمع ، والمعنى : من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة : ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فأيهما علا كان الشبه له .

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة ، قال القرطبيّ : وقد روي هذا مرفوعاً ذكره البزار وعن قتادة : أمشاج ألوان وأطوار ، يريد أنها تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : هي عروق النطفة . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء ، والغرض من هذا التنبيه على أنّ الإنسان محدَث فلا بد له من محدث قادر على تصويره وقد صوّره على صور مختلفة فمنها صغير وكبير وطويل وقصير ومستدير وعريض .

ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه جعل بين العظام مفاصل ثم أوصلها بأوتار وعروق ولحم ، ودوّر الرأس وشق في جانبيه السمع ، وفي مقدمه البصر والأنف والفم ، وشق في البدن سائر المنافذ ، ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة ، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } [ القيامة : 40 ] .

وقوله تعالى : { نبتليه } يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه حال من فاعل خلقنا أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له ، والثاني : أنه حال من الإنسان وصح ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال ، ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى : نبتليه نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة ، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى : نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلف ، وفيما يختبره به وجهان : أحدهما : قال الكلبي : تختبره بالخير والشرّ . والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء . وقيل : نبتليه نكلفه بالعمل بعد الخلق . قال مقاتل رضي الله عنه : وقيل : نكلفه ليكون مأموراً بالطاعة ومنهياً عن المعاصي .

{ فجعلناه } أي : بما لنا من العظمة بسبب ذلك { سميعاً بصيراً } أي : عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته ، فيصح تكليفه وابتلاؤه فقدّم العلة الغائية لأنها متقدّمة في الاستحضار على التابع لها المصحح لورودها ، وقدّم السمع لأنه أنفع في المخاطبات ، ولأنّ الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية ، وخصهما بالذكر لأنهما أنفع الحواس ، ولأنّ البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع ، وقال بعضهم : في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل إنا جعلناه سميعاً بصيراً نبتليه ، أي : جعلنا له ذلك للابتلاء . وقيل : المراد بالسميع المطيع كقولك سمعاً وطاعة وبالبصير العالم يقال : لفلان بصر في هذا الأمر .