فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

{ إنا خلقنا الإنسان من نطفة } فإن المراد بالإنسان هنا بنو آدم ، قال القرطبي من غير خلاف ، والنطفة الماء الذي يقطر ، وهو المني وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وجمعها نطف أي خلقناه من مادة هي شيء يسير جدا من الرجل والمرأة ، والنطفة ماء الرجل والمرأة وأيضا الماء الصافي قل أو كثر ، ولا فعل للنطفة أي لا يستعمل لها فعل من لفظها .

{ أمشاج } صفة لنطفة وهي جمع مشج بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال أو مشيج كشريف وأشراف وهي الأخلاط ، ووقع الجمع صفة لمفرد لأنه في معنى الجمع أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك فوصف بالجمع والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما يقال مشج هذا بهذا فهو ممشوج أي خلط هذا بهذا فهو مخلوط .

قال المبرد مشج يمشج إذا اختلط وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، قال الفراء أمشاج اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة ، ويقال مشج هذا إذا خلط ، وقيل الأمشاج الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة .

قال القرطبي : وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، قيل وما كان من عصب وعظم فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة ، حتى لو زنت المرأة بامرأة واجتمع الماءآن في رحم إحداهما خلق الولد بلا عظم ، وقد وقع ذلك في عصر السلطان غياث الدين فلم يدر السلطان ، فجمع الأطباء والعلماء فلم يدركوا شيئا من شأنه فأرسل الاستفتاء إلى علماء ظفر أباد فقال محمد بن الحاج إنه خلق من ماء امرأتين فتفحص السلطان فظهر أنه كذلك ، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر .

قال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة ، وقيل الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار ، ويؤيد هذا وقوعه نعتا للنطفة ، قال ابن مسعود : أمشاجها عروقها ، وعن ابن عباس : قال ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان ، وعنه قال : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء ، وعنه قال : الأمشاج الذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار ، ومنه يكون الولد .

وجملة { نبتليه } في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا أي مريدين ابتلاءه حين تأهله ويجوز أن يكون حالا من الإنسان ، والمعنى نبتليه بالخير والشر والتكاليف قال الفراء معناه والله أعلم { فجعلناه سميعا بصيرا } نبتليه وهي مقدمة معناها التأخير ، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، وعلى هذا هذه حال مقدرة وقيل مقارنة .

وقال الكرخي : لا حاجة إلى دعوى التقديم والتأخير مع صحة المعنى بدونه ، وقيل معنى الابتلاء نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة والأول أولى ، والمراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان ، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها قال الخطيب أي جعلناه عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره ، وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته فيصح تكليفه وابتلاؤه ، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات ، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية وقيل المراد بالسميع المطيع كقولهم سمعا وطاعة ، وبالبصير العالم يقال لفلان بصر في هذا الأمر أي علم ، والأول أولى .