البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

الأمشاج : الأخلاط ، واحدها مشج بفتحتين ، أو مشج كعدل ، أو مشيج كشريف وأشراف ، قاله ابن الأعرابي ، وقال رؤبة :

يطرحن كل معجل بساج *** لم يكس جلداً من دم أمشاج

وقال الهذلي :

كأن النصل والفوقين منها *** خلاف الريش سيط به مشيج

وقال الشماخ :

طوت أحشاء مرتجة لوقت *** على مشج سلالته مهين

ويقال : مشج يمشج مشجاً إذا خلط ، ومشيج : كخليط ، وممشوج : كمخلوط . مزج الشيء بالشيء : خلطه ، وقال الشاعر :

كأن سبيئة من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء

{ إنا خلقنا الإنسان } : هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق { من نطفة أمشاج } : أخلاط ، وهو وصف للنطفة .

فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه : هي العروق التي في النطفة .

وقال ابن عباس ومجاهد والربيع : هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما .

وقال الحسن : اختلاط النطفة بدم الحيض ، فإذا حبلت ارتفع الحيض .

وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة : أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً .

وقال ابن عباس أيضاً والكلبي : هي ألوان النطفة .

وقيل : أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، والنطفة أريد بها الجنس ، فلذلك وصفت بالجمع كقوله : { على رفرف خضر } أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة .

وقال الزمخشري : نطفة أمشاج ، كبرمة إعسار ، وبرد أكياس ، وهي ألفاظ مفرد غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد .

ويقال أيضاً : نطفة مشج ، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له ، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما . انتهى .

وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً .

قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه .

{ نبتليه } : نختبره بالتكليف في الدنيا ؛ وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة ، فعلى هذا هي حال مصاحبة ، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف ، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة . انتهى .

وهذا معنى قول ابن عباس .

وقيل : نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا ، فهي حال مقارنة .

وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل .

{ فجعلناه سميعاً بصيراً } نبتليه ، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء ، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، والمعنى يصح بخلافه ، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين ، وهما كناية عن التمييز والفهم ، إذ آلتهما سبب لذلك ، وهما أشرف الحواس ، تدرك بهما أعظم المدركات .