تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

الآية 2 : وقوله تعالى : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة }[ فيه وجهان :

أحدهما : إن ]{[22849]} الإنسان لم يكن إنسانا في النطفة ولا في العلقة ولا في المضغة ، ولكن المقصود من إنشاء النطفة والعلقة هذا الإنسان ، والعواقب في الأفعال هي الأوائل في القصد والمراد . فاستقامت إضافته إلى ما ذكرنا لما رجع إليه القصد من إنشائها .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته ، إن كان رشدا فامضه وإن كان غيا فانته )[ الزبيدي في الإتحاف10/93 ، وعزاه لابن المبارك في الزهد ] .

فاللزوم النظر في العواقب ، فثبت أن المقصود من فعل أهل التمييز العاقبة ، وإن كانت العاقبة مقصودا إليها في الابتداء . لذلك استقامت إضافة الإنسان إلى النطفة والعلقة والمضغة .

ثم قوله عز وجل : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة } منصرف إلى أولاد آدم ، فيكون المعنى من الانسان أولاده . ثم ذكر لهم ابتداء أحوالهم وما تنتهي إليه عاقبتهم ، وهو الموت ، ليتعظوا به ، ويتذكروا .

ووجه الاتعاظ ، هو أنهم إذا علموا ابتداء أحوالهم ، وعلموا ما تنتهي إليه عاقبتهم ، علموا في الحال التي هم فيها أن أنفسهم في أبدانهم ليست لهم ، بل[ هي ]{[22850]} عارية في أبدانهم ؛ إذ لم يكن منهم صنع في الابتداء ، وأمانة ، والحق على الأعين أن تقوم بحفظ الأمانة ورعايتها وألا تخون صاحبها فيها .

فإن هو خانها ، ولم يتول حفظها لحقته المسبة والمذمّة . وإن حفظها ، ورعاها حق رعايتها استوجب الحمد والثناء من صاحبها .

والحق على المستعير أن يتمتع بالعارية ، وينتفع بها إلى الوقت الذي أذن له ، وألا يضيعها . فإن ضيعها لحقته الغرامة والضمان بتضييعه إياها . وكذلك إذا علموا أنها/618 – ب/ في أبدانهم عارية وأمانة علموا أن عليهم رعايتها واستعمالها في الوجه الذي أذن لهم فيها ، فلا{[22851]} تلحقهم التبعة في العاقبة ، ولا تلزمهم المسبة والمذمة في ذلك في الدنيا والآخرة ، والله أعلم .

والثاني : أن النظر في ابتداء الخلقة إلى ما يصير عند انقضاء الأمر يدعو إلى إيجاب القول بالبعث إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل من الأخبار ؛ وذلك أن التأمل في ابتداء الخلقة يظهر عجيب قدرة الله تعالى ولطيف حكمته ، ويعلم أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ لا يجوز أن يقع قصده من إنشاء الخلق للإفناء خاصة لخروجه عن حد الحكمة ، فيحملهم على القول بالبعث . ولأن النظر في ابتداء الخلقة والنظر إلى ما يرجع إليه بعد الوفاة مما يمنع الافتخار والتكبر لأن إنشاءه كان من نطفة ، يستقذرها الخلائق ، ومن علقة ومضغة ، يستخبثها كل أحد ، وبعد الممات يصير حقة{[22852]} قذرة .

ومن كان هذا شأنه لم يحسن التكبر في مثله ، فكان في تذكير أوائل الأحوال وأواخرها موعظة لهم ليتعظوا ، ويتبصروا ، وتعريف لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم ، فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { أمشاج نبتليه } والأمشاج الأخلاط ، ثم الأخلاط يقع بوجهين :

أحدهما : في اختلاط ما ء الرجل بماء المرأة .

والثاني : يقع في الأحوال ، وهي أن النطفة إذا حولت علقة ، لم تحول بدفعة واحدة ، بل هي تغلظ شيئا فشيئا حتى إذا تم غلظها صارت علقة ، وكذلك العلقة يدخل فيها التغيير شيئا فشيئا حتى إذا تم التغيير فيها حالت مضغة ، فهذا هو الاختلاط في الأحوال .

ومنهم من قال : الأخلاط الطبائع الأربعة التي عليها جبل الإنسان ، ومنهم من صرف الخلط[ إلى ]{[22853]} الألوان ، فذكر أن ماء الرجل أبيض يخالطه حمرة ، وماء المرأة أحمر يخالطه صفرة .

وقوله تعالى : { نبتليه } بالخير والشر والأمر والنهي . ثم الابتلاء[ يحتمل وجهين :

أحدهما : ]{[22854]} هو الاستظهار لما خفي من الأمور ، والله تعالى لا يخفى عليه أمر ، فيحتاج إلى استظهاره ، ولكن{ نبتليه } ليظهر للمبتلى ما كان خفيا عليه بفعله وتركه .

وأما الخلق فهم يمتحنون ، ويبتلون ليظهر لهم ما كان خفيا عليهم ، فيكون الابتلاء منصرفا إليهم لا إلى المبتلي والممتحن .

والثاني : أن الابتلاء لما كان الاستظهار لما خفي من الأمور ؛ وذلك يكون بالأمر والنهي ، فسمي الأمر من الله تعالى والنهي لعباده ابتلاء لمكان الأمر والنهي لا على تحقيق معنى الابتلاء منه .

وقال الحسن : لما صلح أن يضاف الاستخبار إلى الله تعالى ، وإن كان هو خبيرا بما استخبر ، فجائز أن يضاف إليه الابتلاء أيضا ، وإن كان هو بالذي ابتلاه عالما بصيرا من العبد بعد الابتلاء من الفعل[ ما ]{[22855]} كان غائبا ، فالله يعرفه شاهدا بفعله ، وقبل ذلك كان يعرفه غائبا ، لأن معرفة ما يكون أن يعرف مثل كونه غائبا وبعد كونه شاهدا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فجعلناه سميعا بصيرا } أي جعلنا له سمعا ، يميز بين ما يؤدي إليه سمعه ، وجعلنا له بصرا ، يبصر به ما أدى[ إليه ]{[22856]} بصر الوجه ليضع كل شيء موضعه ، وذلك هو بصر القلب وسمع القلب لأنه خص البشر بالابتلاء لمكان بصر الباطن والسمع الباطن .

ألا ترى أن البهائم لها بصر الظاهر وكذا السمع ؟ ويحتمل أي جعلناه{ سميعا بصيرا } ، يبصر ماله وما عليه وما ينفعه وما يضره ، ثم أنشأ فيه السمع والبصر ، ولا يعرف كيفية السمع والبصر الذي جعل فيه ، ولا ماهيته ولا مم هو لطفا منه ليعلم أنه منشئ الكيفيّات والماهيّات وأنه يتعالى عن الوصف له بالكيفية والماهية ؟ .


[22849]:في الأصل و م: و.
[22850]:ساقطة من الأصل و م.
[22851]:الفاء ساقطة من الأصل و م.
[22852]:في م: جيفة.
[22853]:ساقطة من الأصل و م.
[22854]:ساقطة من الأصل و م.
[22855]:ساقطة من الأصل و م.
[22856]:ساقطة من الأصل و م.