الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

قوله تعالى : " إنا خلقنا الإنسان " أي ابن آدم من غير خلاف " من نطفة " أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه :

مالي أراكِ تكرهينَ الجنة *** هل أنت إلا نطفةٌ في شَنَّهْ{[15657]}

وجمعها : نطف ونطاف . " أمشاج " أخلاط . واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ، قال رؤبة :

يَطْرَحْنَ كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِ *** لم يُكسَ جِلْدًا في دمٍ أمشاجِ

ويقال : مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلوط وخليط . وقال المبرد : واحد الأمشاج : مشيج ، يقال : مشج يمشج : إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، قال الشماخ :

طَوَتْ أحشاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ *** على مَشَجٍ سلالتُه مَهِينُ

وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة . ويقال للشيء من هذا إذا خلط : مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة . وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ، قال الهذلي{[15658]} :

كان الرِّيشَ والفُوقَيْنِ منه *** خلافَ النصلِ سِيطَ به مَشِيجُ

وعن{[15659]} ابن عباس أيضا قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة . وقد روي هذا مرفوعا ، ذكره البزار .

وروي عن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة . وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم . ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما ، كما قال في سورة " المؤمنون " " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " [ المؤمنون : 12 ] الآية . وقال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . وقال أهل المعاني : الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ؛ لأنه نعت للنطفة ، كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق . وروي عن أبي أيوب الأنصاري : قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة " البقرة " .

قوله تعالى : " نبتليه " أي نختبره . وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار . وفيما يختبر به وجهان : أحدهما : نختبره بالخير والشر . قاله الكلبي . الثاني : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء . قاله الحسن . وقيل : " نبتليه " نكلفه . وفيه أيضا وجهان : أحدهما : بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل . الثاني : بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي . وروي عن ابن عباس : " نبتليه " : نصرفه خلقا بعد خلق ؛ لنبتليه بالخير والشر . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم " فجعلناه سميعا بصيرا " لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير .

قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة . وقيل : " جعلناه سميعا بصيرا " : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى .


[15657]:الشنة: القربة.
[15658]:هو عمرو بن الداخل الهذلي. وفي (اللسان: مشج) زهير بن حرام الهذلي. سيط به: أي خرج قذذ من الريش مختلط من الدم والماء.
[15659]:وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ما يأتي: والمعنى: "من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام، والخواص تجتمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة، ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له".