قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان } . يعني ابن آدم من غير خلاف «من نُطْفَة » أي : من ماء يقطر وهو المنيّ ، وكل ماء قليل في وعاء ، فهو نطفة ؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه : [ الرجز ]
5022- مَا لِي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ *** هَلْ أنْتِ إلاَّ نُطفةٌ فِي شَنِّه ؟{[58794]}
قوله : «أمْشَاجٍ » : نعت ل «نُطْفَةٍ » ووقع الجمع نعتاً لمفرد ؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى : { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } [ الرحمن : 76 ] أو جعل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع .
وقال الزمخشري : «نُطْفةٍ أمشاج » كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ، ويقال : نطفة مشج ؛ قال الشماخ : [ الوافر ]
5023- طَوتْ أحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لوقتٍ *** عَلى مَشجٍ سُلالتُهُ مَهِينُ{[58795]}
ولا يصح في «أمْشَاجٍ » أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما .
فقد منع أن يكون «أمشاج » جمع «مشج » بالكسر .
قال أبو حيان{[58796]} : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن «أفعالاً » لا يكون مفرداً .
قال سيبويه : وليس في الكلام «أفْعَال » إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد ب «أفعال » تأولوه انتهى .
قال شهاب الدين{[58797]} : هو لم يجعل «أفعالاً » مفرداً ، إنما قال : يوصف به المفرد ، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة ، وكل قطعة من البرد برداً ، فوصفوهما بالجمع .
وقال أبو حيان{[58798]} : «الأمشاج » : الأخلاط ، وأحدها «مَشَج » بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال ، أو مشيج كشريف وأشراف . قاله ابن العربي ؛ وقال رؤبة [ الرجز ]
5024- يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ *** لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ{[58799]}
وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير : [ الوافر ]
5025- كَأنَّ الرِّيشَ والفُوقيْنِ مِنْهُ*** خِلافُ النَّصْلِ سيطَ بِهِ مشيجُ{[58800]}
ويقال : مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط ، فمشيج ك «خليط » ، وممشوج ك «مخلوط » انتهى .
فجوز أن يكون جمعاً ل «مشيج » كعدل ، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك .
وقال الزمخشري : «ومشجه ومزجه بمعنى ، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ » .
وقال القرطبي{[58801]} : ويقال : مشجت هذا بهذا أي : خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلواط وخليط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، وهو دم الحيض{[58802]} ، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها ، فاختلطت النُّطفة بالدم .
وقال الفراء : أمشاج : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة .
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : الأمشاج في الحمرة ، والبياض في الحمرة{[58803]} ، وعنه أيضاً قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق ، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة{[58804]} .
قال القرطبي{[58805]} : «وقد روي هذا مرفوعاً ؛ ذكره البزار » .
وعن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة{[58806]} .
وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء{[58807]} .
وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم{[58808]} ، ونحوه .
قال قتادة : هي أطوار الخلق : طوراً نطفة ، وطوراً علقة ، وطوراً مضغة ، وطوراً عظاماً ، ثم يكسو العظام لحماً{[58809]} .
قال ابن الخطيب{[58810]} : وقيل : إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والتقدير : من نطفة ذات أمشاج ، فحذف المضاف وتم الكلام .
قوله : «نبتليه » . يجوز في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها حال من فاعل خلقنا ، أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له .
والثاني : أنها حال من الإنسان ، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال ، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى «نبتليه » نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف ؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف .
وقال الزمخشري : «ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال ، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة » .
قال شهاب الدين{[58811]} : «وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم » .
وقال بعضهم : في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل : إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه ، أي : جعلنا له ذلك للابتلاء ، وهذا لا حاجة إليه .
فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه
قوله : «نبتليه » : لنبتليه ، كقولك : «جئتك أقضي حقك ، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا » ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ }[ المدثر : 6 ]
ومعنى : «نبتليه » نختبره ، وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار ، وفيما يختبر به وجهان :
أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشر{[58812]} .
والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء{[58813]} .
وقيل : «نَبْتَلِيه » نكلّفه بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل رحمه الله . وقيل : نكلفه ؛ ليكون مأموراً بالطاعة ، ومنهياً عن المعاصي .
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } .
والمعنى : إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان ، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز ، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، والمعنى : جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وقد يراد بالسميع المطيع ، كقوله : «سَمْعاً وطَاعَة » ، وبالبصير : العالم ، يقال : لفلان بصر في هذا الأمر .
وقيل : المراد بالسمع والبصر : الحاسَّتان المعروفتان ، والله - تعالى - خصهما بالذكر ؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.