اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان } . يعني ابن آدم من غير خلاف «من نُطْفَة » أي : من ماء يقطر وهو المنيّ ، وكل ماء قليل في وعاء ، فهو نطفة ؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه : [ الرجز ]

5022- مَا لِي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ *** هَلْ أنْتِ إلاَّ نُطفةٌ فِي شَنِّه ؟{[58794]}

وجمعها : نطف ونطاف .

قوله : «أمْشَاجٍ » : نعت ل «نُطْفَةٍ » ووقع الجمع نعتاً لمفرد ؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى : { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } [ الرحمن : 76 ] أو جعل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع .

وقال الزمخشري : «نُطْفةٍ أمشاج » كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ، ويقال : نطفة مشج ؛ قال الشماخ : [ الوافر ]

5023- طَوتْ أحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لوقتٍ *** عَلى مَشجٍ سُلالتُهُ مَهِينُ{[58795]}

ولا يصح في «أمْشَاجٍ » أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما .

فقد منع أن يكون «أمشاج » جمع «مشج » بالكسر .

قال أبو حيان{[58796]} : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن «أفعالاً » لا يكون مفرداً .

قال سيبويه : وليس في الكلام «أفْعَال » إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد ب «أفعال » تأولوه انتهى .

قال شهاب الدين{[58797]} : هو لم يجعل «أفعالاً » مفرداً ، إنما قال : يوصف به المفرد ، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة ، وكل قطعة من البرد برداً ، فوصفوهما بالجمع .

وقال أبو حيان{[58798]} : «الأمشاج » : الأخلاط ، وأحدها «مَشَج » بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال ، أو مشيج كشريف وأشراف . قاله ابن العربي ؛ وقال رؤبة [ الرجز ]

5024- يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ *** لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ{[58799]}

وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير : [ الوافر ]

5025- كَأنَّ الرِّيشَ والفُوقيْنِ مِنْهُ*** خِلافُ النَّصْلِ سيطَ بِهِ مشيجُ{[58800]}

ويقال : مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط ، فمشيج ك «خليط » ، وممشوج ك «مخلوط » انتهى .

فجوز أن يكون جمعاً ل «مشيج » كعدل ، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك .

وقال الزمخشري : «ومشجه ومزجه بمعنى ، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ » .

وقال القرطبي{[58801]} : ويقال : مشجت هذا بهذا أي : خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلواط وخليط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، وهو دم الحيض{[58802]} ، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها ، فاختلطت النُّطفة بالدم .

وقال الفراء : أمشاج : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة .

روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : الأمشاج في الحمرة ، والبياض في الحمرة{[58803]} ، وعنه أيضاً قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق ، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة{[58804]} .

قال القرطبي{[58805]} : «وقد روي هذا مرفوعاً ؛ ذكره البزار » .

وعن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة{[58806]} .

وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء{[58807]} .

وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم{[58808]} ، ونحوه .

قال قتادة : هي أطوار الخلق : طوراً نطفة ، وطوراً علقة ، وطوراً مضغة ، وطوراً عظاماً ، ثم يكسو العظام لحماً{[58809]} .

قال ابن الخطيب{[58810]} : وقيل : إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والتقدير : من نطفة ذات أمشاج ، فحذف المضاف وتم الكلام .

قوله : «نبتليه » . يجوز في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها حال من فاعل خلقنا ، أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له .

والثاني : أنها حال من الإنسان ، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال ، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى «نبتليه » نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف ؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف .

وقال الزمخشري : «ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال ، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة » .

قال شهاب الدين{[58811]} : «وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم » .

وقال بعضهم : في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل : إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه ، أي : جعلنا له ذلك للابتلاء ، وهذا لا حاجة إليه .

فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه

قوله : «نبتليه » : لنبتليه ، كقولك : «جئتك أقضي حقك ، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا » ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ }[ المدثر : 6 ]

أي : لتستكثر .

ومعنى : «نبتليه » نختبره ، وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار ، وفيما يختبر به وجهان :

أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشر{[58812]} .

والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء{[58813]} .

وقيل : «نَبْتَلِيه » نكلّفه بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل رحمه الله . وقيل : نكلفه ؛ ليكون مأموراً بالطاعة ، ومنهياً عن المعاصي .

وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } .

والمعنى : إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان ، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز ، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، والمعنى : جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وقد يراد بالسميع المطيع ، كقوله : «سَمْعاً وطَاعَة » ، وبالبصير : العالم ، يقال : لفلان بصر في هذا الأمر .

وقيل : المراد بالسمع والبصر : الحاسَّتان المعروفتان ، والله - تعالى - خصهما بالذكر ؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما .


[58794]:ينظر اللسان (شنن)، والقرطبي 19/78، وجامع البيان 29/126.
[58795]:ينظر ديوانه 318، والكشاف 4/666، وشرح شواهده ص 559، والكامل 30/113، واللسان (شجج)، والبحر 8/384، والدر المصون 6/737.
[58796]:البحر المحيط 8/394.
[58797]:الدر المصون 6/437.
[58798]:البحر المحيط 8/391.
[58799]:ينظر ديوانه ص (32)، والطبري 29/126، والبحر 8/384، والدر المصون 6/437.
[58800]:ينظر ديوان الهذليين 3/104، ومجاز القرآن 2/279، والطبري 29/ 126، والبحر المحيط 8/384، والكامل 2/91، والدر المصون 6/403.
[58801]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 19/79.
[58802]:في أ: الحيضة.
[58803]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (4/426- 427) وينظر المصدر السابق.
[58804]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/426-427) وينظر المصدر السابق.
[58805]:ذكره الجامع لأحكام القرآن 19/79.
[58806]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/481) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[58807]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/355) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/483) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[58808]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/355).
[58809]:أخرجه الطبري في "تفسيره' (12/355) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/482) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[58810]:ينظر الفخر الرازي 30/209.
[58811]:ينظر الدر المصون 6/438.
[58812]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/163) والقرطبي (19/79).
[58813]:ينظر المصدر السابق.