مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

قوله تعالى : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج } فيه مسائل :

المسألة الأولى : المشج : في اللغة الخلط ، يقال : مشج يمشج مشجا إذا خلط ، والأمشاج الأخلاط ، قال ابن الأعرابي : واحدها مشج ومشيج ، ويقال للشيء إذا خلط : مشيج كقولك : خليط وممشوج ، كقولك مخلوط . قال الهذلي :

كأن الريش والفوقين منه *** خلاف النصل شط به مشيج

يصف السهم بأنه قد بعد في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بدم يسير ، قال صاحب «الكشاف » : الأمشاج لفظ مفرد ، وليس يجمع بدليل أنه صفة للمفرد وهو قوله : { نطفة أمشاج } ويقال أيضا : نطفة مشيج ، ولا يصح أن يكون أمشاجا جمعا للمشج بل هما مثلان في الإفراد ونظيره برمة أعشار أي قطع مسكرة ، وثوب أخلاق وأرض سباسب ، واختلفوا في معنى كون النطفة مختلطة فالأكثرون على أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة كقوله : { يخرج من بين الصلب والترائب } قال ابن عباس هو اختلاط ماء الرجل وهو أبيض غليظ وماء المرأة وهو أصفر رقيق فيختلطان ويخلق الولد منهما ، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة ، قال مجاهد : هي ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء ، وقال عبد الله أمشاجها عروقها ، وقال الحسن : يعني من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة وذلك أن المرأة إذا تلقت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها فاختلطت النطفة بالدم ، وقال قتادة : الأمشاج هو أنه يختلط الماء والدم أولا ثم يصير علقة ثم يصير مضغة ، وبالجملة فهو عبارة عن انتقال ذلك الجسم من صفة إلى صفة ، ومن حال إلى حال . وقال قوم : إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والتقدير من نطفة ذات أمشاج فحذف المضاف وتم الكلام ، قال بعض العلماء : الأولى هو أن المراد اختلاط نطفة الرجل والمرأة لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج ، وهي إذا صارت علقة فلم يبق فيها وصف أنها نطفة ، ولكن هذا الدليل لا يقدح في أن المراد كونها أمشاجا من الأرض والماء والهواء والحار .

أما قوله تعالى : { نبتليه } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : نبتليه معناه لنبتليه ، وهو كقول الرجل : جئتك أقضي حقك ، أي لأقضي حقك ، وأتيتك أستمنحك ، أي لأستمنحك ، كذا قوله : { نبتليه } أي لنبتليه ونظيره قوله : { ولا تمنن تستكثر } أي لتستكثر .

المسألة الثانية : نبتليه في موضع الحال ، أي خلقناه مبتلين له ، يعني مريدين ابتلاءه .

المسألة الثالثة : في الآية قولان : ( أحدهما ) : أن فيه تقديما وتأخيرا ، والمعنى { فجعلناه سميعا بصيرا } لنبتليه ( والقول الثاني ) : أنه لا حاجة إلى هذا التغيير ، والمعنى إنا خلقناه من هذه الأمشاج لا للبعث ، بل للابتلاء والامتحان .

ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، فقال : { فجعلنا سميعا بصيرا } والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز ، كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام : { لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر } وأيضا قد يراد بالسميع المطيع ، كقوله سمعا وطاعة ، وبالبصير العالم يقال : فلان بصير في هذا الأمر ، ومنهم من قال : بل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان . والله تعالى خصهما بالذكر ، لأنهما أعظم الحواس وأشرفها .