الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

قوله : { أَمْشَاجٍ } : نعتٌ ل " نُطْفة " ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردٍ ؛ لأنَّه في معنى الجمع ، كقولِه تعالى :

{ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً ، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع ، وقال الزمخشري : " أََمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار ، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ مفردةٌ غيرُ جموعٍ ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ " ويقال : نُطْفَةٌ مَشَجٌ ، قال الشماخ :

طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ *** على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ

ولا يَصِح " أَمْشاج " أَنْ يكونَ تكسيراً له ، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما " . فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ " مِشْجٍ " بالكسر . قال الشيخ : " وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً . قال سيبويه : " وليس في الكلامِ " أَفْعال " إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع ، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه " انتهى . قلت : هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً ، إنما قال : يُوْصف به المفردُ ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً ، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً ، فوصفوهما بالجمع . وقال الشيخ : " الأمْشاج " الأخلاط ، واحدُها مَشَج بفتحتين ، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف ، قاله ابنُ الأعرابي . وقال رؤبة :

يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ *** لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ

وقال الهذلي :

كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها *** خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ

وقال الشماخ :

طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت . ويقال : " مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط ، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط " انتهى . فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً ل مِشْج كعِدْل ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشريَّ : مَنَعَ ذلك . وقال الزمخشريُّ : " ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً ، والمعنى : مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان .

قوله : { نَّبْتَلِيهِ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها حالٌ مِنْ فاعل " خَلَقْنا " ، أي : خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له . والثاني : أنَّها حالٌ من " الإنسان " ، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال . ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى ب " نَبْتَليه " : نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً . وهو قولُ ابن عباس ، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى ب " نَبْتَليه " : نَخْتَبره بالتكليفِ ؛ لأنَّه وقتَ خَلْقِهِ غيرُ مكلَّفٍ . وقال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ : ناقلين له مِنْ حالٍ إلى حالٍ ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ " . قلت : هذا هو معنى قولِ ابنِ عباس المتقدَّمِ . وقال بعضُهم : " في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ . والأصلُ : إنَّا جَعَلْناه سميعاً بصيراً نَبْتَليه ، أي : جَعَلْنا/ له ذلك للابْتلاءِ " وهذا لا حاجةَ إليه .