المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (37)

وقوله تعالى : { واصنع الفلك } عطف على قوله : { فلا تبتئس } و { الفلك } : السفينة ، وجمعها أيضاً فلك ، وليس هو لفظاً للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد ، جاز أن يجمع فعل على فعل ، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به ، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول : فلك وفلكان وفلك ، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت «يا منصو » ، تريد «يا منصور » ، فرخمت على لغة من يقول : يا حار بالضم ، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل ، وليست بها في الحكم .

وقوله : { بأعيننا } يمكن - فيما يتأول - أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك ، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى : { فنعم القادرون }{[6326]} فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله : { لتصنع على عيني }{[6327]} ، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات ، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره . ويحتمل قوله { بأعيننا } أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك ، فيكون الجمع على هذا للتكثير .

وقرأ طلحة بن مصرف «بأعينا » مدغماً .

وقوله { ووحينا } معناه : وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي ، وروي في ذلك أن نوحاً عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه : أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير ، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها ، فقد روي أيضاً أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء ، ضيقة الأعلى ، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري ، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر : لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكاً بل كانت وعاء فقط ، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر ، وفي الحديث : ( كان راز سفينة نوح عليه السلام جبريل عليه السلام ) والراز : القيم بعمل السفن{[6328]} . ومن فسر قوله { ووحينا } أي بأمرنا لك ، فذلك ضعيف لأن قوله : { واصنع الفلك } مغن عن ذلك . و { الذين ظلموا } هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة ، قال ابن جريج : وهذه الآية تقدم الله{[6329]} فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم .


[6326]:- من الآية (23) من سورة (المرسلات)، ومثلها قوله تعالى: {فنعم الماهدون} وقوله سبحانه: {وإنا لموسعون}.
[6327]:- من الآية (39) من سورة طه.
[6328]:- في "اللسان": "الرّاز: رأس البنّائين، لأنه يروز الحجر واللبن، والجمع الرّازة، وقد يستعمل ذلك لرأس كل صناعة، من: راز يروز إذا امتحن عمله فحذقه". وأصل "الراز": الرائز. (وراجع النهاية لابن الأثير).
[6329]:- يقال: تقدم إلى فلان بكذا: أمره به أو طلب منه. (المعجم الوسيط).