اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (37)

قوله تعالى : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } .

" بأعْينِنَا " حالٌ من فاعل " اصْنَع " أي : محفُوظاً بأعيننا ، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ .

وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس ، أي : الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ . وقرأ طلحةُ بنُ{[18779]} مصرف " بأعْيُنَّا " مدغمة .

فصل

قوله تعالى : { واصنع الفلك } الظَّاهر أنه أمر إيجاب ؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه ، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق ، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها ، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة ، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به ، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ ، وكان ذلك معجزة له .

وأما قوله : " بأعْيُنِنَا " فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ :

أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة ، وهذا يناقض قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] .

وثانيها : أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين ، كقولك : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل .

وثالثها : أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء ، والأبعاض ؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل ، وهو من وجوه :

الأول : معنى " بِأعْيُنِنَا " أي : بنزول الملك ؛ فيعرفه بخبر السفينة ، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه .

والثاني : أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه ؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ ، فلهذا قال المفسِّرون : معناه : بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك ، ويملك دفع السُّوء عنك .

وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين :

أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل .

والثاني : أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها .

وقوله : " وَوَحْيِنَا " إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة .

وقوله : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } فقيل : لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم ، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحكم ، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . وقيل : " لا تُخَاطِبْنِي " في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً .

وقيل : المرادُ ب " الذينَ ظلمُوا " بانه وامرأته .


[18779]:ينظر: المحرر الوجيز 3/160 والبحر المحيط 5/221 والدر المصون 4/97.