إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (37)

{ واصنع الفلك } ملتبساً { بِأَعْيُنِنَا } أي بحفظنا وكلاءتِنا كأن معه من الله عز وجل حُفّاظاً وحرّاساً يكلؤنه بأعينهم من التعدّي من الكفرة ومن الزيغ في الصنعة { وَوَحْيِنَا } إليك كيف تصنعُها وتعليمِنا وإلهامِنا . عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يعلمْ كيف صنعةُ الفُلك ، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعَها مثلَ جُؤجُؤ{[408]} الطائر ، والأمرُ للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروحِ من الغرق إلا به فيجب كوجوبها ، واللامُ إما للعهد بأن يُحملَ على أن هذا مسبوقٌ بوحي الله تعالى إليه عليه السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجّيه ومَنْ معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيِه ، مِنْ شأنه كيتَ وكيت واسمُه كذا ، وإما للجنس . قيل : صنعها عليه الصلاة والسلام في سنتين ، وقيل : في أربعمائة سنة ، وكانت من خشب الساج وجُعلت ثلاثةَ بطونٍ حُمل في البطن الأول الوحوشُ والسباعُ والهوامُّ ، وفي البطن الأوسطِ الدوابُّ والأنعام ، وفي البطن الأعلى جنسُ البشر هو ومَنْ معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد ، وحَمل معه جسدَ آدمَ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : جَعل في الأول الدوابَّ والوحوشَ وفي الثاني الإنسَ وفي الأعلى الطيرَ ، قيل : كان طولُها ثلاثمائة ذراعٍ وعَرْضُها خمسين ذراعاً وسَمْكُها ثلاثين ذراعاً .

وقال الحسنُ : كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستَّمائةِ ذراعٍ . وقيل : إن الحَواريين قالوا لعيسى عليه الصلاة والسلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينةَ يحدثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك الترابِ فقال : أتدرون مَنْ هذا ؟ قالوا : الله ورسولُه أعلم ، قال هذا كعبُ بنُ حام قال : فضرب بعصاه فقال : قم بإذن الله فإذا هو قائمٌ ينفض التراب عن رأسه وقد شاب ، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام : أهكذا هلكْتَ ؟ قال : لا ، متُّ وأنا شابٌّ ولكني ظننتُ أنها الساعة فمِنْ ثَمَّةَ شِبْتُ ، فقال : حدثنا عن سفينة نوحٍ ، قال : كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ طبقةٌ للدواب والوحش وطبقةٌ للإنس وطبقةٌ للطير ، ثم قال : عُدْ بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً .

{ وَلاَ تخاطبني في الذين ظَلَمُواْ } أي لا تراجِعْني فيهم ولا تدعُني ياستدفاع العذابِ عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل : ولا تدعُني فيهم ، وحيث كان فيه ما يلوح بالسبيبة أُكّد التعليلُ فقيل : { إِنَّهُمْ مغْرَقُونَ } أي محكومٌ عليهم بالإغراق قد مضى به القضاءُ وجفّ القلمُ فلا سبيل إلى كفه ولزِمتْهم الحُجةُ فلم يبقَ إلا أن يُجعلوا عِبرةً للمعتبرين ومثلاً للآخرين .


[408]:الجؤجؤ: مجتمع رؤوس عظام الصدر.