المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا} (14)

وقوله { وربطنا على قلوبهم } عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم ، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال ، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ، ومنه يقال : فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها ، ومنه الربط على قلب أم موسى ، وقوله { إذ قاموا فقالوا } يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر ، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس ، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد ، وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول{[7758]} ، وقرا الأعمش «إذ قاموا قياماً فقالوا » ، وقولهم : { لقد قلنا إذاً شططاً } أي لو دعونا من دون ربنا إلهاً ، والشطط الجور ، وتعدي الحد والغلو بحسب الأمر ، ومنه اشتط الرجل في السوم إذا طلب في سلعته فوق قيمتها ، ومنه شطوط النوى والبعد ، ومن اللفظة قول الشاعر : [ الطويل ]

ألا يالقومي قد اشتط عواذلي . . . ويزعمن أن أودى بحقي باطلي{[7759]}


[7758]:نقل القرطبي قول ابن عطية هذا، ثم علق عليه بقوله: "وهذا تعلق غير صحيح، هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم، خائفين من قومهم، وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء، أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام؟ وخاصة في هذا الزمان عند الأصوات الحسان من المرد والنسوان، هيهات، بينهما والله ما بين الأرض والسماء، ثم هذا حرام عند جماعة العلماء".
[7759]:البيت للأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت الأنصاري، وهو في اللسان (شطط). قال: "وشاهد أشط بمعنى أبعد قول الأحوص: ألا يا لقومي . . . البيت". وهو أيضا من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن)، ذكر الآية، وذكر البيت وبعده بيتا آخر هو: ويلحينني في اللهو ألا أحبـــــه وللهو داع دائب غير غافل وللأحوص حديث في كتب الأدب يتناول نفيه إلى قرية باليمن لمجونه وفسقه، وأن بعض الناس كلم الحليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ليعيده فرفض مستشهدا بكثير من شعره في المجون، مع أنه من ذرية الصحابي الجليل عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه "حمي الدبر"، أي الذي حمته النحل من أن يمثل الكفار بجثته بعد قتله.