روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا} (14)

{ وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والإخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار ، وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد . وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل ، ومن المجاز ربط الله تعالى على قلبه صبره ورابط الجاش .

وفي «الكشف » لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل .

وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية ، وعدي الفعل بعلي وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله : يجرح في عراقيبها نصلي { إِذْ قَامُواْ } متعلق بربطنا ، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم : قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد ، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين .

أخرج ابن المنذر . وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم : هو أشبههم إني لأجد في نفسي يئاً ما أظن أحداً يجده قالوا : ما تجد ؟ قال : أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضاً : نحن كذلك فقاموا جميعاً { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض } وقد تقدم آنفاً عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضاً إلا أنه قال : إن بعضهم أخفي حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك .

وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس ، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دعاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينماهم بين يديه تحركت هرة وقيل فارة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به ، وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سراً إلى الإيمان . وقال عطاء : المراد قيامهم من النوم وليس بشيء ، ومثله منا قيل إن المراد قيامهم على الإيمان ، وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء ، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز وجل فقالوا : { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } وجاؤا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فكيون المعنى لا نعبد أبداً من دونه إلهاً أي معبوداً آخر لا استقلالاً ولا اشتراكاً ؛ قيل وعدلوا عن قولهم رباً إلى قولهم { إلها } للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية ، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية .

وقد يقال : إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية ، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفى } [ الزمر : 3 ] وصح أنهم يقولون أيضاً : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك . وجائا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما شركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان ، وابتدأوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد ، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] وفي ذكر ذلك أولاً وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عز وجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى ، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع ، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل إن في الجملة الثانية تأكيداً لها فتأمل ، ولا تعجل بالاعتراض .

والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من المنكرة بعده ، ولو أخر لكان صفة أي لن ندعوا إلهاً كائناً من دونه تعالى : { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أي قولاً ذا شطط أي بعد عن الحق مفرط أو قولاً هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة ، وجوز أبو البقاء كون { شَطَطًا } مفعولاً به لقلنا ، وفسره قتادة بالكذب ، وابن زيد بالخطا ، والسدي بالجور ، والكل تفسير باللازم ، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في في البعد ، وأنشدوا :

شط المراد بحزوى وانتهى الأمل*** وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه ، { وَإِذَا } حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلهاً والله لقد قلنا الخ ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود ، والتضرع إليه ، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها ، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ إِذْ قَامُواْ } بنا لنا { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض } مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } [ الكهف : 14 ] كلاماً بعيداً عن الحق مفرطاً في الظلم ، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين ، قال ابن الغرس : وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعى على ساق .

وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجيء في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان