المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا} (87)

واختلف المتأولون في الضمير في قوله { يملكون } فقالت فرقة : هو عائد على المجرمين ، أي { لا يملكون } أن يشفع لهم ولا سبيل لهم إليها ، وعلى هذا التأويل فهم المشركون خاصة ، ويكون قوله { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } استثناء منقطعاً ، أي لكن من اتخذ عهداً يشفع له ، والعهد على هذا الإيمان قال ابن عباس : العهد لا إله إلا الله . وفي الحديث «يقول الله تعالى يوم القيامة من كان له عندي عهد فليقم »{[8051]} وفي الحديث «خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن تامة كان له عند الله عهد أن يدخل الجنة »{[8052]} والعهد أيضاً الإيمان وبه فسر قوله { لا ينال عهدي الظالمين }{[8053]} [ البقرة : 124 ] ويحتمل أن يكون «المجرمون » يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم { لا يملكون الشفاعة } إلا العصاة المؤمنون فإنهم يشفع فيهم فيكون الاستثناء متصلاً ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله ، فيقول : يا محمد ليست لك ، ولكنها لي »{[8054]} . وقالت فرقة : الضمير في قوله { لا يملكون } للمتقين ، قوله { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } أي إلا من كان له عمل صالح مبرز يحصل به في حيز من يشفع وقد تظاهرت الأحاديث بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن في أمتي رجلاً يدخل الله بشفاعته الجنة اكثر من بني تميم »{[8055]} ، قال قتادة : وكنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين ، وقال بعض هذه الفرقة معنى الكلام { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا لهذه الصنيفة فيجيء { من } في التأويل الواحد للشافعين ، وفي الثاني للمشفوع فيهم{[8056]} ، وتحتمل الآية أن يراد ب { من } محمد عليه السلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس ، ويكون الضمير في { يملكون } لجميع أهل المواقف ، ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه فيقوم إليها مدلاً ، فالعهد على هذا النص على أمر الشفاعة{[8057]} ، وقوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }{[8058]} [ الأسراء : 79 ] .


[8051]:أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه. ولفظه كما ذكره الإمام السيوطي في "الدر المنثور" أنه قرأ: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا}، قال: إن الله يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا، قولوا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. وذكره بهذا النص أيضا الإمام الشوكاني في فتح القدير.
[8052]:أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد ألا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منهن شيئا فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه)، (الدر المنثور وفتح القد ير).
[8053]:من الآية (124) من سورة (البقرة).
[8054]:خرجه مسلم بمعناه، واستشهد به القرطبي في تفسير هذه الآية.
[8055]:أخرج الإمام أحمد في مسنده (4 ـ 212) عن عبد الله بن قيس قال: سمعت الحارث ابن أقيش يحدث أن أبا برزة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أمتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر، وإن من أمتي لمن يعظم النار حتى يكون ركنا من أركانها)، وأخرج أيضا الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أعطي كل نبي عطية، فكل قد تعجلها، وإني قد أخرجت عطيتي شفاعة لأمتي، وإن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة، وإن الرجل ليشفع للقبيلة، وإن الرجل ليشفع للعصبة،وإن الرجل ليشفع للثلاثة وللرجلين وللرجل). (المسند 3 ـ 20).
[8056]:وضح الطبري هذا الرأي فقال: "ومن نصب [من] على أن معناه: إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا، فإنه ينبغي أن يجعل قوله {لا يملكون} للمتقين، فيكون معنى الكلام حينئذ: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا، فيكون معناه عند ذلك: إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا، فأما إذا جعل {لا يملكون...} خبرا عن المجرمين فإن [من] تكون حينئذ نصبا على أنه استثناء منقطع، فيكون معنى الكلام: لا يملكون الشفاعة، لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكه".
[8057]:اضطربت الأصول في كتابة هذه العبارة، واخترنا أقربها إلى الصواب في نظرنا، والعصمة لله وحده.
[8058]:من الآية (79) من سورة (الإسراء).