الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا} (87)

قوله : { لاَّ يَمْلِكُونَ } : في هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإِخبارِ بذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم . وفي هذه الواوِ قولان ، أحدهما : أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميراً البتَة ، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ " أكلوني البراغيث " والفاعلُ " مِنْ اتَّخَذَ " لأنه في معنى الجمع . قاله الزمخشري . وفيه بُعْدٌ ، وكأنه قيل : لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْداً . قال الشيخ : " ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ جَعْلِ الواوِ ضميراً . وقد قال الأستاذ أبو الحسن ابنُ عصفور : إنها لغة ضعيفة " .

قلت : قد قالوا ذلك في قوله تعالى : { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ .

ثم قال الشيخ : " وأيضاً فالألفُ والواوُ والنونُ التي تكون علاماتٍ لا ضمائرَ لا يُحْفَظُ ما يجيءُ بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع وصريحِ التثنية أو العطفِ ، أمَّا أنْ يأتيَ بلفظٍ مفردٍ ، ويُطلَقَ على جمع أو مثنى ، فيُحتاج في إثباتِ مثلِ ذلك إلى نَقْلِ . وأمَّا عُوْدُ الضمائرِ مثناةً أو مجموعةً على مفردٍ في اللفظِ يُراد به المثنى والمجموعُ فمسموعٌ معروفٌ في لسانِ العرب ، على أنه يمكنُ قياسُ هذه العلاماتِ على تلك الضمائرِ ، ولكن الأَحْوَطَ أن لا يُقال إلا بسماعٍ " .

والثاني : أن الواوَ ضميرٌ . وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : انها تعودُ على الخَلْق جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين - المُتَّقين والمجرمين - عليهم ، إذ هما قِسْماه . والثاني : أنه يعودُ على المتقين والمجرمين ، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلاً لأنَّ هذين القسمين هما الخَلْقُ كله . والثالث : أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط ، وهو تَحَكُّمٌ . قوله : { إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ } هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا ؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ .

وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران : إمَّا على الرفعُ على البدلِ ، وإمَّا النصبُ على أصلِ الاستثناء . وإنْ قيل : إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعاً ، وفيه حينئذٍ اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل .

وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من " الشفاعة " على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : لا يملكونَ الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ ، فيكون نصبُه على وَجْهَي البدلِ وأصلِ الاستثناء ، نحو : " ما رأيت أحداً إلا زيداً " . وقال بعضُهم : إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ : لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْداً ، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر :

نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ *** ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا

أي : ولم يَنْجُ شيءٌ .

وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناءَ متصلاً وإن عاد الضميرُ في { لاَّ يَمْلِكُونَ } على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين . قال الشيخ : " وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ " . قلت : ولا بُعْدَ فيه ، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة ، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه .