اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا} (87)

قوله : { لا يَمْلِكُون } في هذه الجملة وجهان :أحدهما : أنها{[22581]} مستأنفة سيقت للإخبار{[22582]} بذلك{[22583]} .

والثاني : أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم{[22584]} .

وفي هذه الواو{[22585]} قولان :

أحدهما : أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة{[22586]} ، وإنما هي علامة ، كهي في لغة{[22587]} أكلُوني البراغيثُ{[22588]} والفاعل " من اتَّخَذَ " لأنه{[22589]} في معنى الجمع قاله{[22590]} الزمخشري{[22591]} وفيه بعدٌ ، وكأنه قيل : لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً{[22592]} .

قال أبو حيَّان : ولا ينبغي{[22593]} حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة ، مع وضوح جعل الواو ضميراً . وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن{[22594]} عصفور{[22595]} : إنَّها لغةٌ ضعيفة{[22596]} .

قال شهابُ الدين : قد قالوا{[22597]} ذلك في قوله : { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ }{[22598]} { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ }{[22599]} فلهذا الموضع بهما أسوة{[22600]} . ثم قال أبو حيان : وأيضاً فالألف ، والواو ، والنون التي تكون{[22601]} علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع ، وصريح{[22602]} التثنية ، " أو العطف " {[22603]} ، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى{[22604]} ، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل{[22605]} ، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب ، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع{[22606]} .

والثاني : أن الواو ضميرٌ ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه :

أحدها{[22607]} : أنها تعود على الخلق جميعهم ، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم ، إذ هما قسماه{[22608]} .

والثاني : أنه{[22609]} يعود على المتقين والمجرمين{[22610]} ، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً . لأن هذين القسمين هما{[22611]} الخلقُ كلُّه .

والثالث : أنَّه يعوج على المتقين فقط ، أو المجرمين فقط ، وهو تحكُّم .

قوله : { إلاَّ من اتَّخَذَ } هذا الاستثناء يترتب على عود الواو{[22612]} على ماذا{[22613]} ؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق ، أو على الفريقين المذكورين " أو على المتقين فقط " {[22614]} .

فالاستثناء حينئذ متصل ، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدل ، وإما النصب على أصل{[22615]} الاستثناء{[22616]} . وإن{[22617]} قيل : إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً ، وفيه حينئذ{[22618]} اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجاز التزام النصب ، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل " كالمتصل{[22619]} " . وجعل{[22620]} الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل{[22621]} الاستثناء نحو : ما رأيت أحداً إلا زَيْداً{[22622]} .

وقال بعضهم : إن المستثنى منه{[22623]} محذوف ، والتقدير : لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً ، فحذف المستثنى " منه للعلم " {[22624]} به ، فهو كقول الأخرِ :

نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ *** ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا{[22625]}

أي : ولَمْ يَنْجُ بشيءٍ .

وجعل{[22626]} ابنُ عطية الاستثناء متصلاً ، وإن عاد الضمير في " لا يَمْلِكُون " على المجرمين فقط{[22627]} على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين{[22628]} . قال أبو حيان : وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد{[22629]} . قال شهاب الدين : ولا{[22630]} بعد فيه ، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة ، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه{[22631]} .

فصل{[22632]}

قال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون{[22633]} .

وقال آخرون : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم . وهذا أولى ، لأن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح{[22634]} . وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر . لأنه قال عقيبه " إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً " ، والتقدير : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً ، يعني للمؤمنين " {[22635]} ، كقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى }{[22636]} فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه ، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً ، وهو التوحيد ، فوجب دخوله تحته ، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام{[22637]}- " قال لأصحابه يوماً : {[22638]} " أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء " عند الرَّحمن عهداً " قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : " يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء " {[22639]} : اللَّهُمَّ فاطرَ السماوات والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي{[22640]} أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ{[22641]} ، وأنَّ مُحَمداً عبدُكَ ورسُولَك ، فإنَّك{[22642]} إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر ، وتُباعدني من الخَيْرِ ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد . فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع{[22643]} تحت العرش ، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ : أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد ؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة " {[22644]} .

فظهر أن المراد من العهد كلمة{[22645]} الشهادة ، وظهر{[22646]} وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر .


[22581]:أنها: سقط من ب.
[22582]:في ب: بالإخبار.
[22583]:انظر البحر المحيط 6/217.
[22584]:انظر التبيان 2/882.
[22585]:أي: الواو في قوله: "يملكون".
[22586]:ألبتة: سقط من ب.
[22587]:في ب: قوله. وهو تحريف.
[22588]:هي لغة طيىء، أو أزد شنؤة، أو بلحارث، والمقصود بهذه اللغة أن بعض العرب تلحق الفعل علامة تدل على تثنية الفاعل أو جمعه نحو: قاما المحمدان، وقاموا المحمدون، وقمن الهندات، فالألف والواو والنون حروف تدل على تثنية الفاعل وجمعه وليست ضمائر، كما كانت التاء في (قامت هند) حرفا تدل على التأنيث عند جميع العرب وهذه اللغة يسميها النحويون لغة (أكلوني البراغيث). المغني 2/365، الهمع 1/160.
[22589]:في ب: لأن.
[22590]:في ب: قال.
[22591]:الكشاف 2/423-424.
[22592]:في ب: لا يملك الشفاعة إلا من أي إلا المتخذ عهدا.
[22593]:ولا ينبغي: سقط من ب.
[22594]:بن: سقط من ب.
[22595]:تقدم.
[22596]:قال ابن عصفور: (وبعض العرب يلحق الفعل علامة تدل على تثنية الفاعل وجمعه، وهي لغة ضعيفة). شرح جمل الزجاجي 1/167. وانظر البحر المحيط 6/217.
[22597]:في ب: قال.
[22598]:[المائدة: 71].
[22599]:[الأنبياء: 3].
[22600]:الدر المصون : 5/16.
[22601]:في ب: فالألف واللام والواو تكونون. وهو تحريف.
[22602]:في ب: أو بصريح. وهو تحريف.
[22603]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22604]:في ب: أو لمثنى. وهو تحريف.
[22605]:قال ابن هشام ردا على منع أبي حيان أن يقال على هذه اللغة: جاءوني من جاءك لأنها لم تسمع إلا مع ما لفظه جمع: (وأقول: إذا كان سبب دخولها بيان أن الفاعل الآتي جمع كان لحاقها هنا أولى، لأن الجمعية خفية) المغني 2/376.
[22606]:البحر المحيط 6/217.
[22607]:في ب: الأول.
[22608]:انظر البحر المحيط 6/217.
[22609]:في ب: أنها.
[22610]:انظر البحر المحيط 6/217.
[22611]:في ب: هو. وهو تحريف.
[22612]:في ب: هذا الاستثناء يعود على الواو.
[22613]:يريد على أي شيء يكون مرجع الضمير، وهذا أحد أوجه استعمال (ماذا)، وتكون كلها مركبة وهي اسم جنس بمعنى شيء، أو اسم موصول بمعنى (الذي) على الخلاف في تخريج قول الشاعر: دعـــي مــاذا عـــلمــت سأتقيــه *** ولـكن بالمـغيّب نبّئــينـي فالجمهور على أنّ (ماذا) كله مفعول (دعي) ثم اختلف، فقال السيرافي وابن خروف (ما) موصول بمعنى (الذي)، وقال الفارسي نكرة بمعنى شيء قال: لأن التركيب ثبت في الأجناس دون الموصولات، انظر المغني 1/301.
[22614]:أصل: سقط من ب.
[22615]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22616]:وذلك أن المستثنى في الاستثناء المتصل إذا كان الكلام تاما غير موجب جاز فيه إتباعه للمستثنى منه في إعرابه على أنه بدل بعض من كل عند البصريين، وعطف نسق عند الكوفيين لأن (إلاّ) عندهم من حروف العطف في باب الاستثناء، وهي عندهم بمنزلة (لا) العاطفة في أن ما بعدها مخالف لما قبلها، والنصب على أصل الاستثناء. التبيان 2/288، البحر المحيط 6/217، شرح التصريح 1/349، 350.
[22617]:في ب: وأن.
[22618]:حينئذ: سقط من ب.
[22619]:وذلك أن المستثنى في الاستثناء المنقطع إن أمكن تسليط العامل عليه فالحجازيون يوجبون النصب، لأنه لا يصح فيه الإبدال حقيقة من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والتميميون يرجحون النصب، ويجوزون الإتباع. التبيان 2/288، البحر المحيط 6/217، شرح التصريح 1/352-353.
[22620]:في ب: جعل.
[22621]:في ب: ووجه.
[22622]:والاستثناء على هذا التقدير متصل. انظر الكشاف 2/424.
[22623]:في ب: الاستثناء.
[22624]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22625]:تقدم.
[22626]:في ب: وقال.
[22627]:فقط: سقط من ب.
[22628]:انظر تفسير ابن عطية 9/536-537.
[22629]:انظر البحر المحيط 6/218.
[22630]:في ب: لا.
[22631]:الدر المصون 5/17.
[22632]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 21/254.
[22633]:في ب: الموصوف. وهو تحريف.
[22634]:في ب: الواصل. وهو تحريف.
[22635]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22636]:[الأنبياء: 28].
[22637]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[22638]:في ب: ذات يوم.
[22639]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22640]:في ب: أني.
[22641]:لك: سقط من الأصل.
[22642]:في ب: فإني.
[22643]:ووضع: سقط من الأصل.
[22644]:انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (109).
[22645]:في الأصل: كلمتي.
[22646]:في ب: وظهور وظهور.