قوله : { لا يَمْلِكُون } في هذه الجملة وجهان :أحدهما : أنها{[22581]} مستأنفة سيقت للإخبار{[22582]} بذلك{[22583]} .
والثاني : أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم{[22584]} .
وفي هذه الواو{[22585]} قولان :
أحدهما : أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة{[22586]} ، وإنما هي علامة ، كهي في لغة{[22587]} أكلُوني البراغيثُ{[22588]} والفاعل " من اتَّخَذَ " لأنه{[22589]} في معنى الجمع قاله{[22590]} الزمخشري{[22591]} وفيه بعدٌ ، وكأنه قيل : لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً{[22592]} .
قال أبو حيَّان : ولا ينبغي{[22593]} حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة ، مع وضوح جعل الواو ضميراً . وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن{[22594]} عصفور{[22595]} : إنَّها لغةٌ ضعيفة{[22596]} .
قال شهابُ الدين : قد قالوا{[22597]} ذلك في قوله : { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ }{[22598]} { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ }{[22599]} فلهذا الموضع بهما أسوة{[22600]} . ثم قال أبو حيان : وأيضاً فالألف ، والواو ، والنون التي تكون{[22601]} علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع ، وصريح{[22602]} التثنية ، " أو العطف " {[22603]} ، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى{[22604]} ، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل{[22605]} ، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب ، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع{[22606]} .
والثاني : أن الواو ضميرٌ ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه :
أحدها{[22607]} : أنها تعود على الخلق جميعهم ، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم ، إذ هما قسماه{[22608]} .
والثاني : أنه{[22609]} يعود على المتقين والمجرمين{[22610]} ، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً . لأن هذين القسمين هما{[22611]} الخلقُ كلُّه .
والثالث : أنَّه يعوج على المتقين فقط ، أو المجرمين فقط ، وهو تحكُّم .
قوله : { إلاَّ من اتَّخَذَ } هذا الاستثناء يترتب على عود الواو{[22612]} على ماذا{[22613]} ؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق ، أو على الفريقين المذكورين " أو على المتقين فقط " {[22614]} .
فالاستثناء حينئذ متصل ، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدل ، وإما النصب على أصل{[22615]} الاستثناء{[22616]} . وإن{[22617]} قيل : إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً ، وفيه حينئذ{[22618]} اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجاز التزام النصب ، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل " كالمتصل{[22619]} " . وجعل{[22620]} الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل{[22621]} الاستثناء نحو : ما رأيت أحداً إلا زَيْداً{[22622]} .
وقال بعضهم : إن المستثنى منه{[22623]} محذوف ، والتقدير : لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً ، فحذف المستثنى " منه للعلم " {[22624]} به ، فهو كقول الأخرِ :
نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ *** ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا{[22625]}
وجعل{[22626]} ابنُ عطية الاستثناء متصلاً ، وإن عاد الضمير في " لا يَمْلِكُون " على المجرمين فقط{[22627]} على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين{[22628]} . قال أبو حيان : وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد{[22629]} . قال شهاب الدين : ولا{[22630]} بعد فيه ، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة ، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه{[22631]} .
فصل{[22632]}
قال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون{[22633]} .
وقال آخرون : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم . وهذا أولى ، لأن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح{[22634]} . وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر . لأنه قال عقيبه " إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً " ، والتقدير : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً ، يعني للمؤمنين " {[22635]} ، كقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى }{[22636]} فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه ، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً ، وهو التوحيد ، فوجب دخوله تحته ، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام{[22637]}- " قال لأصحابه يوماً : {[22638]} " أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء " عند الرَّحمن عهداً " قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : " يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء " {[22639]} : اللَّهُمَّ فاطرَ السماوات والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي{[22640]} أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ{[22641]} ، وأنَّ مُحَمداً عبدُكَ ورسُولَك ، فإنَّك{[22642]} إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر ، وتُباعدني من الخَيْرِ ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد . فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع{[22643]} تحت العرش ، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ : أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد ؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة " {[22644]} .
فظهر أن المراد من العهد كلمة{[22645]} الشهادة ، وظهر{[22646]} وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.