البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا} (87)

والضمير في { لا يملكون } عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه ، والاستثناء متصل و { من } بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء { ولا يملكون } استئناف إخبار .

وقيل : موضعه نصب على الحال من الضمير في { لا يملكون } ويكون عائداً على المجرمين .

والمعنى غير مالكين أن يشفع لهم ، ويكون على هذا الاستثناء منقطعاً .

وقيل : الضمير في { لا يملكون } عائد على المتقين والمجرمين ، والاستثناء متصل .

وقيل : عائد على المتقين ، واتخاذ العهد هو العمل الصالح الذي يحصل به في حيِّز من يشفع .

وتظافرت الأحاديث على أن أهل العلم والصلاح يشفعون فيشفعون .

وفي الحديث : « إن في أمتي رجلاً يدخل الله بشفاعته أكثر من بني تميم » وقال قتادة : كنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين .

وقال بعض من جعل الضمير للمتقين : المعنى لا يملك المتقون { الشفاعة } إلاّ لهذا الصنف ، فعلى هذا يكون من اتخذ المشفوع فيهم ، وعلى التأويل الأول يكون من اتخذ الشافعين فالتقدير على التقدير الثاني { لا يملكون الشفاعة لأحد إلاّ من اتخذ } فيكون في موضع نصب كما قال :

فلم ينج إلاّ جفن سيف ومئزرا *** أي لم ينج شيء إلا جفن سيف .

وعلى هذه الأقوال الواو ضمير .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون يعني الواو في { لا يملكون } علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث ، والفاعل من { اتخذ } لأنه في معنى الجمع انتهى .

ولا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميراً .

وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة .

وأيضاً قالوا : والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلاّ بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف ، إما أن تأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل ، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى ، والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ، ولكن الأحفظ أن لا يقال ذلك إلاّ بسماع .

وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب يعني من على تقدير حذف المضاف أي إلاّ شفاعة من { اتخذ } ، والعهد هنا .

قال ابن عباس : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله .

وفي الحديث : « من قال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله كان له عند الله عهد » وقال السدي : العهد الطاعة .

وقال ابن جريج : العمل الصالح .

وقال الليث : حفظ كتاب الله .

وقيل : عهد الله إذنه لمن شاء في الشفاعة من عهد الأمير إلى فلان بكذا ، أي أمره به أي لا يشفع إلاّ المأمور بالشفاعة المأذون له فيها .

ويؤيده { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن } { لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم { لا يملكون الشفاعة } إلاّ العصاة المؤمنون فإنهم سيشفع فيهم ، فيكون الاستثناء متصلاً .

وفي الحديث : « لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلاّ الله ، فيقول : يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي » انتهى .

وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد .

وقال ابن عطية أيضاً : ويحتمل أن يراد بمن اتخذ محمد عليه الصلاة والسلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس .

وقوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } والضمير في { لا يملكون } لأهل الموقف انتهى .

وفيه بعض تلخيص .