المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَهُمۡ فِي رَوۡضَةٖ يُحۡبَرُونَ} (15)

و { يحبرون } معناه ينعمون ، قاله مجاهد ، والحبرة والحبور السرور والتنعم ، وقال يحيى بن أبي كثير{[9286]} : { يحبرون } معناه يسمعون الأغاني{[9287]} ، وهذا نوع من الحبرة ، وقال ابن عباس { يحبرون } يكرمون وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينظرون العبرة ومنه بيت أبي ذؤيب : [ الطويل ]

فراق كقيص السن فالصبر انه . . . لكل أناس عبرة وحبور{[9288]}

هذا على هذه الرواية ، ويروى عثرة وحبور ، وهي أكثر وذكر تعالى «الروضة » لأنها من أحسن ما يعلم من بقاع الأرض ، وهي حيث اكتمل النبت الأخضر وجن وما كان منها في المرتفع من الأرض كان أحسن ، ومنه قول الأعشى : [ البسيط ]

وما روضة من رياض الحزن معشبة . . . خضراء جاد عليها مسل هطل{[9289]}

ومنه قول كثير : [ الطويل ]

فما روضة طيبة الثرى . . . تمج النداء جثجاثها وعرارها{[9290]}

قال الأصمعي : ولا يقال «روضة » حتى يكون فيها ماء يشرب منه .


[9286]:هو يحيى بن أبي كثير الطائي، مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل، من الخامسة، مات سنة اثنين وثلاثين، وقيل قبل ذلك. (تقريب التهذيب).
[9287]:قال الأوزاعي: "إذا أخذ أهل الجنة في السماع (يعني الغناء) لم تبق شجرة في الجنة إلا رددت الغناء بالتسبيح والتقديس"، وقال: "ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم".
[9288]:البيت من قصيدة لأبي ذؤيب مطلعها: أمن آل ليلى بالضجوع وأهلنا بنعف اللوى أو بالصفية عير و "قيص السن" : انشقاقها بالطول، ويقال: "انقاضت البئر" إذا تشقق طيها وتهدم، وقوله: "فالصبر" بالنصب، أي: اصبر صبرا، وعن الأصمعي:"فالصبر" بالرفع، والمعنى: هذا فراق أبدي كانشقاق السن فاصبر عليه، وقال الأخفش: إذا انشقت السن عرضا قيل: انقمصت، ورواها أبو عمرو: "كنغض السن" وهو تحركها، وقال: "قاصت السن تقيص" إذا تحركت، وأما قوله: "عزة وحبور" فرواية نادرة، والرواية المشهورة وبها الديوان: "عثرة وجبور" أي: يعثرون ثم يجبرون، وعلى هذه الرواية المشهورة لا شاهد في البيت، ولهذا لم يذكره الطبري ولا القرطبي ولا البحر المحيط.
[9289]:هذا البيت من قصيدته المشهورة التي بدأها بقوله: ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟ وهو واحد من ثلاثة أبيات استشهد بها المفسرون كالقرطبي والطبري وغيرهما، وهي قوله: ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل يضاحك الشمس منها كوكب شرق مؤزر بعميم النبت مكتهل يوما بأطيب منها نشر رائحة ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقد أورد أبو عبيدة في مجاز القرآن البيتين الأول والثالث، ورواية الطبري: (من رياض الحسن)، ورياض الحزن أطيب من رياض الأرض المنخفضة، لأن رياض الحزن أكثر تعرضا للرياح التي تنشر منها الرائحة، وأبعد من أن تطأها الأقدام، والمسبل: المطر، الهطل: الغزير، والكوكب: قيل هو النور، وقيل: النبات المستطيل. ومعنى الشرق- على هذا-: الريان. والمؤزر: الذي حوله نبات آخر صار له كالإزار، والمكتهل: الذي قد بلغ وتم، والنشر: تضوع الرائحة، والأصل: جمع أصيل، وهو قبيل الغروب حين تصفر الشمس ويطيب الهواء، يقول: إن رائحة حبيبته أطيب من رائحة الأزهار في هذه الروضة التي بلغت حد الكمال في الحسن والإزهار.
[9290]:هذا واحد من بيتين قالهما كثير في محبوبته عزة، وقد ذكرهما في اللسان، (جثث) وهو يتحدث عن رائحة فمها التي تفوق رائحة الأزهار في أحسن الرياض، والبيتان هما: فما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من فيها إذا جئت طارقا وقد أوقدت بالمجمر اللدن نارها والثرى: التراب الندي، والجثجاث: نبات سهلي ربيعي يجف في الصيف، وهو أخضر،له زهرة صفراء كأنها زهرة عرفجة طيبة الريح تأكله الإبل إذا لم تجد غيره، واحدته جثجاثة. والعرار: بهار البر، واحدته عرارة، وهو نبت طيب الريح، قيل: هو النرجس البري، وفيه قال الصمة بن عبد الله القشيري بيته المشهور: تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار.