الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَهُمۡ فِي رَوۡضَةٖ يُحۡبَرُونَ} (15)

ثم بين كيف تفريقهم فقال : " فأما الذين آمنوا " قال النحاس : سمعت الزجاج يقول : معنى " أما " دع ما كنا فيه وخذ في غيره . وكذا قال سيبويه : إن معناها مهما كنا{[12441]} في شيء فخذ في غير ما كنا فيه . " فهم في روضة يحبرون " قال الضحاك : الروضة الجنة ، والرياض الجنان . وقال أبو عبيد : الروضة ما كان في تسفل ، فإذا كانت مرتفعة فهي ترعة . وقال غيره : أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ . كما قال الأعشى :

ما روضة من رياض الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ *** خضراء جاد عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ{[12442]}

يضاحك الشمس منها كوكب شَرِقٌ *** مُؤَزَّرٌ بعمِيمِ النبت مُكْتَهِلُ{[12443]}

يوما بأطيب منها نَشْرَ رائحةٍ *** ولا بأحسن منها إذ دنا الأُصُلُ{[12444]}

إلا أنه لا يقال لها روضة إلا إذا كان فيها نبت ، فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة . وقد قيل في الترعة غير هذا . وقال القشيري : والروضة عند العرب ما ينبت حول الغدير من البقول . ولم يكن عند العرب شيء أحسن منه . الجوهري : والجمع روض ورياض ، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها . والروض : نحو من نصف القربة ماء . وفي الحوض روضة من ماء إذا غطى أسفله . وأنشد أبو عمرو :

وروضة سقيتُ منها نِضْوَتِي{[12445]}

" يحبرون " قال الضحاك وابن عباس : يكرمون . وقيل ينعمون . وقاله مجاهد وقتادة . وقيل يسرون . السدي : يفرحون . والحبرة عند العرب : السرور والفرح . ذكره الماوردي . وقال الجوهري : الحبر : الحبور وهو السرور . ويقال : حبره يحبره ( بالضم ) حبرا وحبرة . قال تعالى : " فهم في روضة يحبرون " أي ينعمون ويكرمون ويسرون . ورجل يحبور{[12446]} يفعول من الحبور . النحاس : وحكى الكسائي : حبرته أي أكرمته ونعمته . وسمعت علي بن سليمان يقول : هو مشتق من قولهم : على أسنانه حبرة أي أثر ، ف " يحبرون " يتبين عليهم أثر النعيم . والحبر مشتق من هذا . قال الشاعر :

لا تملأ الدَّلْوَ وعَرِّقْ{[12447]} فيها*** أما ترى حَبَارَ من يسقيهَا

وقيل : أصله من التحبير وهو التحسين ، ف " يحبرون " يحسنون . يقال : فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلا حسن الهيئة . ويقال أيضا : فلان حسن الحبر والسبر ( بالفتح ) ، وهذا كأنه مصدر قولك : حبرته حبرا إذا حسنته . والأول اسم ، ومنه الحديث : ( يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره ) وقال يحيى بن أبي كثير " في روضة يحبرون " قال : السماع{[12448]} في الجنة ، وقاله الأوزاعي ، قال : إذا أخذ أهل الجنة في السماع{[12449]} لم تبق شجرة في الجنة إلا رددت الغناء بالتسبيح والتقديس . وقال الأوزاعي : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم . زاد غير الأوزاعي : ولم تبق شجرة في الجنة إلا رددت ، ولم يبق ستر ولا باب إلا ارتج وانفتح ، ولم تبق حلقة إلا طنت بألوان طنينها ، ولم تبق أجمة من أجام الذهب إلا وقع أهبوب الصوت في مقاصبها ، فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر ، ولم تبق جارية من جوار الحور العين إلا غنت بأغانيها ، والطير بألحانها ، ويوحي الله تبارك وتعالى إلى الملائكة أن جاوبوهم وأسمعوا عبادي الذين نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان وأصوات روحانيين فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة ، ثم يقول الله جل ذكره : يا داود قم عند ساق عرشي فمجدني ، فيندفع داود بتمجيد ربه بصوت يغمر الأصوات ويجليها{[12450]} وتتضاعف اللذة ، فذلك قوله تعالى : " فهم في روضة يحبرون " . ذكره الترمذي الحكيم رحمه الله . وذكر الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الناس ، فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم ؛ وفي أخريات القوم أعرابي فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من سماع ؟ فقال : ( نعم يا أعرابي ، إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خمصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط ، فذلك أفضل نعيم الجنة ) فسأل رجل أبا الدرداء : بماذا يتغنين ؟ فقال : بالتسبيح . والخمصانية : المرهفة الأعلى ، الخمصانة البطن ، الضخمة الأسفل .

قلت : وهذا كله من النعيم والسرور والإكرام ، فلا تعارض بين تلك الأقوال . وأين هذا من قوله الحق : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " [ السجدة : 17 ] على ما يأتي{[12451]} . وقوله عليه السلام : ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) . وقد روي : ( إن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار{[12452]} فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا ) . ذكره الزمخشري .


[12441]:في ش و ج "مهما يكن".
[12442]:رياض الحزن أحسن من رياض الخفوض لارتفاعها.
[12443]:قوله:" يضاحك الشمس" أي يدور معها حيثما دارت. وكوكب كل شيء معظمه. والمراد هنا الزهر. ومؤزر: مفعل من الإزار. والشرق: الريان الممتلئ ماء. والعميم: التام السن. والمكتهل: الذي قد بلغ وتم.
[12444]:النشر: الرائحة الطيبة. والأصل: جمع أصيل، وخص هنا الوقت لأن المنبت يكون فيه أحسن ما يكون لتباعد الشمس والفيء عنه.
[12445]:النضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار.
[12446]:أعرقت الكأس وعرقتها: أقللت ماءها.
[12447]:اليحبور: الناعم من الرجال.
[12448]:السماع: الغناء.
[12449]:السماع: الغناء.
[12450]:في ك: "ويحليها" بالحاء المهملة. وفي كتاب التذكرة: "ويخليها" بالخاء المعجمة.
[12451]:راجع ص 103 من هذا الجزء.
[12452]:في الأصول: "الأجراس".