المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّٞ وَمُسۡتَوۡدَعٞۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ} (98)

وقوله { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع } الآية ، الإنشاء فعل الشيء ، و { من نفس واحدة } يريد آدم عليه السلام ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «فمستقَر » بفتح القاف على أنه موضع استقرار ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقِر » بكسر القاف على أنه اسم فاعل ، وأجمعوا على فتح الدال من «مستودَع » بأن يقدر موضع استيداع ، وأن يقدر أيضاً مفعولاً ولا يصح ذلك في مستقر لأن استقر لا يتعدى فيبنى منه مفعول أما أنه روى هارون الأعور عن أبي عمرو «ومستودِع » بكسر الدال ، فمن قرأ «فمستقَر ومستودِع » على أنها موضع استقرار وموضع استيداع علقها بمجرور تقديره فلكم مستقر ومستودع ، ومن قرأ «فمستقِر ومستودع » على اسم الفاعل في «مستقِر » واسم المفعول في «مستودَع » علقها بمجرور تقديره فمنكم مستقر ومستودع واضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع ، فقال الجمهور مستقر في الرحم ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم ، وقال ابن عون : مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالوا : قد توفي فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن «مستقر ومستودع » فقال : مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن : مستقر في القبور ومستودع في الدنيا ، وقال ابن عباس : المستقر الأرض والمستودع عند الرحم ، وقال ابن جبير : المستودع في الصلب والمستقر في الآخرة والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقراراً مطلقاً لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقراراً مطلقاً ، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر » بالإضافة إلى التي قبلها و «مستودع » بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد ، و { يفقهون } معناه يفهمون{[5030]} ، وقد تقدم تفسير مثل هذا آنفاً .


[5030]:- الاهتداء بالنجوم واضح، ولذلك ختمه سبحانه وتعالى بما يناسبه وهو قوله سبحانه: [يعلمون] أي: من له أدنى إدراك فإنه ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها، ولكن لما كان الإنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق نظر ختمه سبحانه بقوله: [يفقهون] لأن الفقه هو استعمال الفطنة ودقة النظر والفكر. وهكذا التقى ختام كل آية بما يلائم صدرها. عن "البحر المحيط".