فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّٞ وَمُسۡتَوۡدَعٞۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ} (98)

{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون 98 } .

{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } أي آدم عليه السلام كما تقدم ، وهذا نوع آخر من بديع خلقه الدال على كمال قدرته ، أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة مرفوعا أن الله نصب آدم بين يديه ثم ضرب كتفه اليسرى فخرجت ذريته من صلبه حتى ملأ الأرض ، فهذا الحديث هو بمعنى ما في هذه الآية .

{ فمستقر } قرئ بكسر القاف وبفتحها أي فمنكم قار في الأرحام أو فلكم مقر ، التقدير الأول على القراءة الأولى ، والثاني على الثانية وقيل أي فمنكم مستقر على الأرض ، أو فلكم مستقر على ظهرها { و } منكم { مستودع } في الرحم أو في باطن الأرض أو في أصلاب الرجال والدواب .

قال ابن عباس : المستقر في أرحام الأمهات ، والمستودع في أصلاب الآباء ، ثم قرأ { ونقر في الأرحام ما نشاء } وروي عنه أنه قال بالعكس ، يعني أن المستقر صلب الأب ، والمستودع رحم الأم ، وقال ابن عباس : بالمستقر في الرحم إلى أن يولد ، والمستودع في القبر إلى أن يبعث .

وقال مجاهد : المستقر على ظهر الأرض في الدنيا ، والمستودع عند الله في الآخرة ، وقال الحسن : المستقر في القبر ، والمستودع في الدنيا ، وقيل المستقر في الرحم والمستودع في الأرض .

قال القرطبي : وأكثر أهل التفسير يقولون المستقر ما كان في الرحم ، والمستودع ما كان في الصلب ، والفرق بينهما أن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع ، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض للرد .

وجعل الحصول في الرحم استقرارا ، وفي الصلب استيداعا لأن النطفة تبقى في صلب الآباء زمانا قصيرا والجنين يبقى في بطن الأم زمانا طويلا ، فكلما كان المكث في بطن الأم أكثر من المكث في صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب .

وقيل المستقر من خلق ، والمستودع من لم يخلق ، وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة أو النار لأن المقام فيهما يقضي الخلود والتأييد ، وقيل الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث ، ومما يدل على تفسير المستقر بالكون على الأرض قول الله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } .

{ قد فصلنا الآيات } أي بينا الدلائل الدالة على التوحيد والبراهين الواضحة والحجج النيرة { لقوم يفقهون } غوامض الدقائق ، ذكر سبحانه ههنا يفقهون وفيما قبله { يعلمون } لأن في إنشاء النفس من نفس واحدة وجعل بعضها مستقرا وبعضها مستودعا من الغموض والدقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تحقيق وإمعان فكر ، وتدقيق نظر .