معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالَ فِرۡعَوۡنُ ءَامَنتُم بِهِۦ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكۡرٞ مَّكَرۡتُمُوهُ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لِتُخۡرِجُواْ مِنۡهَآ أَهۡلَهَاۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ} (123)

قوله تعالى : { قال } لهم .

قوله تعالى : { فرعون } حين آمنوا .

قوله تعالى : { آمنتم به } قرأ حفص آمنتم على الخبر هاهنا وفي طه ، والشعراء ، وقرأ الآخرون بالاستفهام ، أآمنتم به .

قوله تعالى : { قبل أن آذن لكم } ، أصدقتم موسى من غير أمري إياكم .

قوله تعالى : { إن هذا لمكر مكرتموه } ، أي : صنع صنعتموه أنتم وموسى .

قوله تعالى : { في المدينة } في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر .

قوله تعالى : { لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون } ما أفعل بكم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ فِرۡعَوۡنُ ءَامَنتُم بِهِۦ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكۡرٞ مَّكَرۡتُمُوهُ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لِتُخۡرِجُواْ مِنۡهَآ أَهۡلَهَاۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ} (123)

قوله : { أآمنتم } قرأه الجمهور بصيغة الاستفهام بهمزتين فمنهم من حققها ، وهم : حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وروْح عن يعقوب ، وخلفٌ ، ومنهم من سهل الثانية مَدّة ، فصار بعد الهمزة الأولى مدتان ، وهؤلاء هم : نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وقرأه حفص عن عاصم بهمزة واحدة فيجوز أن يكون إخباراً ، ويجوز أن تكون همزة الاستفهام محذوفة وما ذلك ببدع .

والاستفهام للإنكار والتهديد مجازاً مرسلاً مركباً ، والإخبار مستعمل كذلك أيضاً لظهور أنه لا يقصد حقيقة الاستفهام ولا حقيقة الإخبار لأن المخاطبين صرحُوا بذلك وعلموه ، والضمير المجرور بالباء عائد إلى موسى ، أي : آمنتم بما قاله ، أو إلى رب موسى .

وجملة : { إن هذا لمكر } الخ . . . خبر مراد به لازم الفائدة أي : قد علمتُ مرادكم لأن المخاطَب لا يخبَر بشيء صَدر منه ، كقول عنترة :

إنْ كنتتِ أزمعتِ الفراق فإنما *** زُمّتْ ركابُكُم بليل مظلم

أي : إن كنت أخفيتِ عني عزمك على الفراق فقد علمتُ أنكم شددتُم رحالكم بليل لترحلوا خفية .

وقوله : { قَبْلَ أنْ آذنَ لكُم } ترق في موجب التوبيخ ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان ، وَفصْلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ .

والمكر تقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران ( 54 ) ، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { أفأمنوا مَكر الله } [ الأعراف : 99 ] والضمير المنصوب في { مكرتموه } ضمير المصدر المؤكّد لفعله .

و { في } ظرفية مجازية : جعل مكرهم كأنه موضوع في المدينة كما يوضع العنصر المفسد ، أي : أردتم إضرار أهلها ، وليست ظرفية حقيقية لأنها لا جدوى لها إذ معلوم لكل أحد أن مكرهم وقع في تلك المدينة ، وفسره في « الكشاف » بأنهم دبروه في المدينة حين كانوا بها قبل الحضور إلى الصحراء التي وقعت فيها المحاورة ، وقد تبين أن المراد بالظرفية ما ذكرناه بالتعليل الذي بعدها في قوله : { لتخرجوا منها أهلها } والمراد هنا بعض أهلها ، وهم بنو إسرائيل ، لأن موسى جاء طلباً لإخراج بني إسرائيل كما تقدم .

وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقاً لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة ، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة ، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فاتمروا بأمره ، كما في الآية الأخرى { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } [ طه : 71 ] .

ويحتمل أنه قاله تمويهاً وبهتاناً ليصرف الناس عن اتباع السحرة ، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكاً في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها ، وأن ذلك مواطاة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة ، وهو موافق في قوله هذا ، لما كان أشار به .

الملأ من قومه حين قالوا : { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } [ الشعراء : 35 ] وأيّا ما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة ، بله أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة ، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَالَ فِرۡعَوۡنُ ءَامَنتُم بِهِۦ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكۡرٞ مَّكَرۡتُمُوهُ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لِتُخۡرِجُواْ مِنۡهَآ أَهۡلَهَاۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ} (123)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: قال فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله، يعني صدّقوا رسوله موسى عليه السلام لما عاينوا من عظيم قدرة الله وسلطانه:"آمنتم" يقول: أصدقتم بموسى وأقررتم بنبوّته، قبل أن آذن لكم بالإيمان به. "إن هذا "يقول: تصديقكم إياه، وإقراركم بنبوّته، "لمكرٌ مكرتمُوهُ في المَدينةِ" يقول: لخُدْعة خدعتم بها من في مدينتنا لتخرجوهم منها. "فَسَوْفَ تَعْلَمونَ" ما أفعل بكم، وتلقون من عقابي إياكم على صنيعهم هذا...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إن هذا لمكر مكرتموه} أي شيء صنعتموه في ما بينكم وبين موسى.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

في هذه الآية حكاية لما قال فرعون للسحرة حين آمنوا بموسى وصدقوه لظهور الحق، فقال لهم "آمنتم به؟ "وإنما قال لهم ذلك، لأنه توهم أن الإقدام على خلاف الملك بما عمل قبل الإذن فيه منكر يقتضي سطوة الملك بصاحبه والتنكيل به. وقوله تعالى "إن هذا لمكر مكر تموه في المدينة" معناه تواطأتم على هذا الأمر لتستولوا على العباد والبلاد، فتخرجوا من المدينة أهلها وتتغلبوا عليها، والمكر قيل: الاغترار بالحيلة إلى خلاف جهة الاستقامة، وأصله الفتل. وقوله "فسوف تعلمون" تهديد من فرعون لهم وتخويف من مخالفته، وإنما هدد فرعون ب (سوف تعلم)، لأن فيه معنى أقدمت بالجهل على سبب الشر، فسوف تعلم حين يظهر مسببه الذي أدى إليه كيف كانت منزلته، فهو أبلغ من الإفصاح به.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ءَامَنْتُمْ بِهِ} على الإخبار، أي فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخاً لهم وتقريعاً. وقرئ: «أآمنتم»، بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد. {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة} إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى هذه الصحراء قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بني إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقول فرعون {قبل أن آذن لكم} دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم مفارقة الإذن، ولم يجعله نفس الإيمان، وعنفهم فرعون على الإيمان قبل إذنه، ثم ألزمهم أن هذا كان على اتفاق منهم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الثانية: اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى أسماع العوام، لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام.

فالشبهة الأولى: قوله: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة} والمعنى: أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل، بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك، فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق.

والشبهة الثانية: أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم، ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب... قال القاضي: وقوله: {قبل أن آذن لكم} دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية، لأنه لو كان إلها لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره، ثم قال: وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين.

أما قوله: {فسوف تعلمون} لا شبهة في أنه ابتداء وعيد...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وقوله: {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} أي: تجتمعوا أنتم وهو، وتكون لكم 514 دولة وصولة، وتخرجوا منها الأكابر والرؤساء، وتكون الدولة والتصرف لكم، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: ما أصنع بكم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما صرحوا بالذي آمنوا به تصريحاً منع فرعون أن يدلس معه بما يخيل به على قومه، شرع في تهديدهم على وجه يمكر فيه بقومه ويلبس عليهم إيقافاً لهم عن المبادرة إلى الإيمان -كما بادر السحرة- إلى وقت ما، فاستأنف الخبر عنه سبحانه بقوله مصرحاً باسمه غير مضمر له كما في غير هذه السورة لأن مقصود السورة الإنذار، وهو أحسن الناس بالمناداة عليه في ذلك المقام، وقصته مسوفة لبيان فسق الأكثر، وهو أفسق أهل ذلك العصر: {قال فرعون} منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله: {آمنتم} أي صدقتم {به} أي بموسى تصديقاً آمنه من رجوعكم عنه، ومن أخبر أراد الاستفهام، وأوهم فرعون من فهم عنهم من القبط إرادة الإيمان لأجل ما رأوا من دلائل صدق موسى عليه السلام واقتداء بالسحرة بقوله: {قبل أن آذن لكم} ليوقفهم من خطر المخالفة له بما رجاهم فيه من إذنه، فلما ظن أنهم وقفوا خيلهم بما يذهب عنهم ذلك الخاطر أصلاً ورأساً بقوله مؤكداً نفياً لما على قوله من لوائح الكذب: {إن هذا لمكر} أي عظيم جداً، وطول الكلام تبييناً لما أرادوا وتنسية لخاطر الإيمان فقال: {مكرتموه في المدينة} أي على ميعاد بينكم وبين موسى، وحيلة احتلتموها قبل اجتماعكم، وليس إيمانكم لأن صدقه ظهر لكم؛ ثم علل بما يتعلق به فكرهم وتشوش قلوبهم فقال: {لتخرجوا} أي أنتم وموسى عليه السلام {منها أهلها} وتسكنوها أنتم وبنو إسرائيل. ولما استتب له ما أراد من دقيق المكر، شرع في تهديدهم بما يمنع غيرهم وربما ردهم، فقال مسبباً عن ذلك: {فسوف تعلمون} أي بوعد لا خلف فيه ما أفعل بكم من عذاب لا يحتمل...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

المعنى: أآمنتم بموسى أو برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم وآمركم بذلك؟ وفي سورة طه {قال آمنتم له} [طه: 71] والضمير فيه لموسى قطعا لأن تعدية الإيمان باللام تضمين يفيد معنى الاتباع والخضوع. المعنى: وأآمنتم به متبعين له إذعانا لرسالته قبل أن آذن لكم؟ ولذلك يتعين استعمال هذا التضمين في الإيمان بالرسل والاتباع لهم كقوله تعالى حكاية عن فرعون {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} [المؤمنون:47

ومثله قوله تعالى في سورة الشعراء حكاية عن قوم نوح عليه السلام {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] وقوله حكاية عن كفار قريش {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} [الإسراء: 90] وليس منه قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف: 17] بل هذه لام التقوية أي وما أنت بمصدق لنا. وقد بين فرعون علة إيمانهم بما ظنه أو أراد أن يعتقده قومه فيهم فقال مواصلا تهديده {إنّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها} أي أن هذا الصنيع الذي صنعتموه أنتم وموسى وهارون بالتواطؤ والاتفاق ليس إلا مكرا مكرتموه في المدينة بما أظهرتم من المعارضة والرغبة في الغلب عليه مع إسرار اتباعه بعد إدعاء ظهور حجته، زاد في سورة طه {إنّه لكبيركم الذي علّمكم السّحر} [طه: 71] فأجمعتم كيدكم لنا في هذه المدينة لأجل أن تخرجوا منها أهلها المصريين بسحركم –وهو ما كان أتهم به موسى وحده- ويكون لكم فيها مع بني إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والكبرياء كما حكاه تعالى عن فرعون وملئه في سورة يونس-.

{فسوف تعلمون} ما يحل بكم من العذاب، جزاء على هذا المكر والخداع، وبين ذلك بقوله: {لأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلّبنّكم أجمعين}.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ف {قَالَ} لَهُمْ {فِرْعَوْنَ} متهددا على الإيمان: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} كان الخبيث حاكما مستبدا على الأبدان والأقوال، قد تقرر عنده وعندهم أن قوله هو المطاع، وأمره نافذ فيهم، ولا خروج لأحد عن قوله وحكمه، وبهذه الحالة تنحط الأمم وتضعف عقولها ونفوذها، وتعجز عن المدافعة عن حقوقها، ولهذا قال اللّه عنه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وقال هنا: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي: فهذا سوء أدب منكم وتجرؤ عَليَّ. ثم موه على قومه وقال: {إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} أي: إن موسى كبيركم الذي علمكم السحر، فتواطأتم أنتم وهو على أن تنغلبوا له، فيظهر فتتبعوه، ثم يتبعكم الناس أو جمهورهم فتخرجوا منها أهلها. وهذا كذب يعلم هو ومن سبر الأحوال، أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يجتمع بأحد منهم، وأنهم جمعوا على نظر فرعون ورسله، وأن ما جاء به موسى آية إلهية، وأن السحرة قد بذلوا مجهودهم في مغالبة موسى، حتى عجزوا، وتبين لهم الحق، فاتبعوه. ثم توعدهم فرعون بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما أحل بكم من العقوبة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر؛ ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان؛ ولا كيف تلمسها حرارة اليقين. فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب -وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء -.. ومن ثم فوجئ فرعون بهذا الإيمان المفاجئ الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس؛ ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر.. ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته: مفاجأة استسلام السحرة- وهم من كهنة المعابد -لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين!.. والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت.. وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت...

هكذا.. (آمنتم به قبل أن آذن لكم!).. كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق- وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها -أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم- وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئاً -أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم- وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها. أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق. أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار. أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين!

ولكنه الطاغوت جاهل غبي مطموس؛ وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور!

ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز:

(إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها)..

وفي نص آخر: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر)!

والمسألة واضحة المعالم.. إنها دعوة موسى إلى (رب العالمين).. هي التي تزعج وتخيف.. إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين. وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته. وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون، ويعبدون الناس لما يشرعون!.. إنهما منهجان لا يجتمعان... أو هما دينان لا يجتمعان.. أو هما ربان لا يجتمعان.. وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون.. ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين. فأولى أن يفزعوا الأن وقد ألقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون! والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقاً لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فاتمروا بأمره، كما في الآية الأخرى {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} [طه: 71].

ويحتمل أنه قاله تمويهاً وبهتاناً ليصرف الناس عن اتباع السحرة، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكاً في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها، وأن ذلك مواطأة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة، وهو موافق في قوله هذا، لما كان أشار به.

الملأ من قومه حين قالوا: {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره} [الشعراء: 35] وأيّا ما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة، بله أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

...إن الطاغية لا يفكر إلا في نفسه، ولا يحس بحق غيره لا من زاوية استقامة الأمر لأهوائه وشهواته، لقد ثارت نقمة فرعون لأمور: أولها – إنكار موسى ألوهيته. ثانيها – تحديه بآياته، وكان يرجو ويتوهم أنه يقضي على موسى بحجته، فاستعان بالسحر والسحرة، فما أسعفوه بحجة، فكان الغلب عليه، فأثاره ذلك. ثالثها – ثم كان من بعد ذلك أن من استعان لهم ليغلبوا موسى وهارون خذلوه. رابعها – وأيدوهما، وآمنوا بهما، وتشايع بين الناس إيمانهم، فغلت بالشر نفسه، والمعاندة لا تزيده الآيات البينات إلا كفرا، رأى فرعون ما رأى، فلم يؤمن؛ لأن نفسه لم تكن نفس مؤمن، بل طغى وبغى، وقد رأى ملكه يزول، وأوهامه تضمحل فطغى وبغى وآثر الملك والحياة الدنيا على الآخرة، واتجه إلى السحرة، يعذبهم، ويصب جام غضبه عليهم. {فسوف تعلمون}، أي سننزل بكم عذابا تعلمونه بالعيان، لا بالبيان، و (سوف) هنا لتأكيد الكلام.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إنه ينكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم، كأنَّ عمليّة الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني، كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة... وتلك هي عقليّة الطغاة وسيرتهم في كل زمانٍ ومكانٍ، عندما يريدون امتلاك عقول الناس وأفكارهم، فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار، ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدةٍ. فالتفكير ممنوع، والإيمان محرّمٌ بدون الإذن الرسميّ من قِبَل السلطة التي تملك العقول كما يخيل لها كما تملك الأجسام والأعمال...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

التّهديدات الفرعونية الجوفاء:

عندما توجهت ضربة جديدة ـ بانتصار موسى على السحرة وإيمانهم به ـ إلى أركان السلطة الفرعونية، استوحش فرعون واضطرب بشدّة ورأى أنّه إذا لم يظهر أي ردّ فعل في مقابل هذا المشهد، فسيؤمن بموسى كل الناس أو أكثرهم، وستكون السيطرة على الأوضاع غير ممكنة، لهذا عمد فوراً إلى عملين مبتكرين: في البداية وجه اتهاماً (لعلّه مرغوب عند السواد من الناس) إلى السحرة، ثمّ هددهم بأشدّ التهديدات، ولكن على العكس من توقعات فرعون أظهر السحرة مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين، مقاومة أغرقت فرعون وجهازه في تعجب شديد، وأفشلت جميع خططه. وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة إلى أركان السلطان الفرعوني المتزلزل، وقد رسمت الآيات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة.

وعلى أية حال، أفادت الجملة أعلاه أنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أن لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئاً من دون إجازته وإذنه، بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضاً!! وهذه هي أعلى درجات الاستعباد والاستحمار، أن يكون شعبٌ من الشعوب أسيراً وعبداً بحيث لا يحق له حتى التفكير والإِيمان القلبي بأحد أو بعقيدة.